رؤى

السلوك الإسلامي.. ودلالة “ٱلۡمُنكَرِ” في التنزيل الحكيم

في الحديث السابق حول دلالة “ٱلۡمَعۡرُوفِ” في التنزيل الحكيم، وصلنا إلى أنه إذا كان “ٱلۡمَعۡرُوفِ” هو ما عرفه الناس ثم تعارفوا عليه، فأصبح مألوفًا للذوق والقبول الاجتماعي، أي إنه بهذا المفهوم له معنى إيجابي؛ فإن “ٱلۡمُنكَرِ”، قياسا إلى ذلك، هو ما نكره الناس ثم استنكروه اجتماعيا، فأصبح مُستهجنا غير مألوف للذوق الاجتماعي.

ومن هنا، نؤكد من جديد على أن مبدأ “المعروف والمنكر”، وإن كان من أهم أُسس السلوك الإسلامي العام؛ فهو، في الوقت نفسه، مفهوم متطور حسب الزمان، متغير حسب المكان، ويُغطي كل سلوكيات المسلم بالأمور التي لا تتعلق بالحدود.

والمصدر بالنسبة لمصطلح “ٱلۡمُنكَرِ”، هو نكر ينكر نكرا وإنكارا فهو نكير؛ وهو بهذا يشمل غير المُعرَّف، أي ما لم يعرفه الناس وما لم يألفوه؛ وذلك كما جاء في وصف العذاب بأنه “نُّكُر” و”نَكِير”، أي عذاب لم يسبق أن عرفه الإنسان، ولم يألفه الناس.

في وصف العذاب بأنه “نُّكُر”، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَٰهَا حِسَابٗا شَدِيدٗا وَعَذَّبۡنَٰهَا عَذَابٗا نُّكۡرٗا” [الطلاق: 8]؛ وكما في قوله سبحانه: “قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا” [الكهف: 87]؛ وكما في قوله تعالى: “فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡۘ يَوۡمَ يَدۡعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيۡءٖ نُّكُرٍ” [القمر: 6].

أما عن وصف العذاب بكونه “نَكِيرِ”، فقد ورد في آيات التنزيل الحكيم في أخذ الله تبارك وتعالى قوم نوح بالطوفان، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالصيحة والرجفة، وغيرهم؛ أي إنه سبحانه قد أخذهم بعذاب لم يعرفوه مُسبقًا.. كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ” [الحج: 44]؛ وكما في قوله سبحانه: “وَلَقَدۡ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ” [الملك: 18]؛ وكما في قوله تعالى: “وَكَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَمَا بَلَغُواْ مِعۡشَارَ مَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ فَكَذَّبُواْ رُسُلِيۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ” [سبإ: 45].

بيد أن الأمر لا يتوقف عند حدود وصف العذاب، ولكنه يتضمن توضيحا دلاليا لـ”ٱلۡمُنكَرِ”، بوصفه مصطلحا قرءانيا، يستند إلى تجاهل الشيء، وليس الجهل به؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ” [الرعد: 36]؛ وكما في قوله تعالى: “يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ” [النحل: 83].

وهنا نلاحظ كيف ورد الفعل “يُنكِرُ”، كأحد مشتقات مصطلح “ٱلۡمُنكَرِ” في الآيات الكريمة، من المنظور “السلبي” بمعنى “إنكار الشيء وتجاهله عن سابق معرفة به”.. ففي الآية الأولى ورد التعبير القرءاني “يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ”، وفي الثانية ورد “يَعۡرِفُونَ… ثُمَّ يُنكِرُونَهَا”، للدلالة على الإنكار بعد المعرفة.

وهذه، هي الحالة الأولى للنكرة.

أما الحالة الثانية لها، فهي تلك التي تدل على “الجهل وعدم المعرفة والمفاجأة بالشيء”؛ وهذه الحالة، تحديدا، هي حالة النبي إبراهيم عليه السلام عندما جاءته الملائكة، كما في قوله سبحانه: “إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ” [الذاريات: 25] وأيضا عندما قدم لهم الطعام، كما في قوله تعالى: “فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ” [هود: 70]. وهنا نلاحظ كيف وردت عبارة “قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ” في الآية الأولى، للدلالة على كونهم “غير معروفين” بالنسبة إليه.

أما في الآية الثانية، فقد ورد “نَكِرَهُمۡ” كنتيجة لكونه “رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ” إذ هاهنا، اكتشف أنهم لا يأكلون، وعرف أنهم ليسوا من البشر بصفاتهم المعروفة أو المتعارف عليها بين الناس، ولذلك “نَكِرَهُمۡ”؛ ولو تعرَّف عليهم لقال تعالى: “فعرفهم”.

وهذه الحالة من النكرة، أي “الجهل وعدم المعرفة والمفاجأة بالشيء”، مثلما تُعبر عن حالة النبي إبراهيم؛ فهي أيضا تُعبر عن حالة النبي لوط عليه السلام، عندما جاءته الملائكة، كما في قوله عزَّ وجل: “فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٭ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ” [الحجر: 61-62]. ومن الواضح أن عبارة “قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ” (“مُّنكَرُونَ” بفتح الكاف)، التي تأتي للدلالة على كونهم “غير معروفين”، جاءت على لسان لوط، مثلما جاءت على لسان إبراهيم، عليهما السلام.

أيضا فإن لفظ “مُنكِرُون” (بكسر الكاف) كأحد مشتقات مصطلح “ٱلۡمُنكَرِ”، يرد في أكثر من موضع في آيات التنزيل الحكيم؛ للدلالة على حالة النكرة، نتيجة عدم المعرفة أو الجهل؛ كما في حالة عدم معرفة أخوة يوسف عليه السلام، في قوله سبحانه وتعالى: “وَجَآءَ إِخۡوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَعَرَفَهُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُون” [يوسف: 58]. كما ورد أيضا في قوله سبحانه: “وَهَٰذَا ذِكۡرٞ مُّبَارَكٌ أَنزَلۡنَٰهُۚ أَفَأَنتُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ” [الأنبياء: 50]؛ وفي قوله تعالى: “أَمۡ لَمۡ يَعۡرِفُواْ رَسُولَهُمۡ فَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ” [المؤمنون: 69].

ونؤكد، هنا، على اتفاقنا مع المفكر السوري محمد شحرور رحمه الله، في أن مفهوم “الاستنكار” يتولد عن هذه الحالة من النكرة؛ لأن الإنسان عندما يرى شيئا لم يألفه، فقد يستنكره، خاصة إذا كان الشيء غير مألوف بالنسبة إليه. يوضح ذلك، ما جاء على لسان نبي الله موسى عليه السلام، في مخاطبته للعبد الصالح عندما قتل الغلام، في قولع عزَّ من قائل: “فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا” [الكهف: 74].

ثم، نضيف، من جانبنا، من قصة سليمان عليه السلام مع الملكة بلقيس، عندما أحضر لها عرشها، قبل استقبالها ليُفاجئها به؛ وذلك، كما في قوله سبحانه، على لسان سليمان: “قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِيٓ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهۡتَدُونَ” [النمل: 41]. وكما يبدو، فإن لفظ “نَكِّرُواْ” (بتشديد الكاف)، يؤشر إلى طلب سليمان أن “يُصَّعبوا” عليها إمكانية التعرف على عرشها؛ وهو ما حدث تماما، ويتضح في الآية الكريمة التالية مباشرة، في قوله تعالى: “فَلَمَّا جَآءَتۡ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِينَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِينَ” [النمل: 42].

وهكذا، نؤكد من جديد بأنه إذا كان “ٱلۡمَعۡرُوفِ” هو ما عرفه الناس ثم تعارفوا عليه، فأصبح مألوفًا للذوق والقبول الاجتماعي، أي إنه بهذا المفهوم له معنى إيجابي؛ فإن “ٱلۡمُنكَرِ”، قياسا إلى ذلك، هو ما نكره الناس ثم استنكروه اجتماعيا، فأصبح مُستهجنا غير مألوف للذوق الاجتماعي؛ وذلك، مثل ما يؤشر إليه لفظ “أَنكَرَ”، في قوله تبارك وتعالى: “وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ” [لقمان: 19].

بهذا، يحمل مصطلح “ٱلۡمُنكَرِ” دلالة الإنكار والاستنكار؛ بمعنى أن له جانب إيجابي يتمحور حول الاستنكار، أي ما نكره الناس ثم استنكروه اجتماعيًا؛ وفي الوقت نفسه، له جانب سلبي يتعلق بالإنكار، أي “إنكار الشيء وتجاهله عن سابق معرفة به”، كما في قوله سبحانه: “وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَأَيَّ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ” [غافر: 81]؛ حيث إن “تُنكِرُونَ” هنا تدل على “تجاهل الحقيقة”.

وللحديث بقية.

 

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock