تعد ليبيا واحدة من أغنى الدول في العالم من حيث احتياطيات النفط، حيث تُقدّر الاحتياطيات النفطية المؤكدة لديها بحوالي 48 مليار برميل. لكن رغم هذه الثروة الهائلة، تعاني ليبيا من مشكلات كبيرة في قطاع النفط، تتمثل في النزاعات المسلحة، والفساد وسوء الإدارة. وهذه التحديات أدت إلى تذبذب الإنتاج النفطي في ليبيا، ما أثر بشكل كبير على الاقتصاد الوطني.
ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، أي منذ اكتشاف النفط في ليبيا، اعتمدت الحكومات المتعاقبة، بشكل شبه كلي، على إيرادات النفط لتمويل المشروعات الحكومية ودفع الرواتب للعاملين في الدولة. رغم ذلك، ومنذ سقوط نظام القذافي، في عام 2011، انزلقت البلاد في دوامة من الفوضى، حيث تنافست الفصائل المختلفة للسيطرة على الموارد النفطية للبلاد، ما أدى إلى تقليص الإنتاج، وإغلاق الموانئ النفطية الليبية في أوقات كثيرة، وإن كانت متباعدة.
عدة جوانب تتقاطع في ما بينها، لتُعبر عن إشكالية النفط في ليبيا؛ أهمها ما يلي:
من جانب، هناك التحديات الأمنية والسياسية؛ حيث تُعد هذه التحديات من أكبر المعوقات أمام استقرار إنتاج النفط في ليبيا. فالموانئ وحقول النفط غالبا ما تكون تحت سيطرة ميليشيات مسلحة، تستخدمها للضغط على الحكومة للحصول على تنازلات مالية أو سياسية. أضف إلى ذلك، النزاع بين الحكومتين المتنافستين في طرابلس وبنغازي، الذي ساهم في تعقيد الأمور، خاصة أن كل منهما يسعى للسيطرة على الموارد النفطية للبلاد، وتوظيفها لتحقيق مصالحه.
من جانب آخر، تُعتبر مشكلة سوء الإدارة من العوامل التي تُسهم في تعميق أزمة النفط في ليبيا. إذ إن سوء الإدارة، فضلا عن الفساد، أدى إلى تبديد جزء كبير من الإيرادات التي كان يُمكن أن تُستخدم في تحسين البنية التحتية وتطوير قطاع النفط. أضف إلى ذلك، غياب الشفافية في التعاقدات النفطية، وتعاملات الشركات الأجنبية مع الحكومة، أدى إلى إثارة الشكوك حول كيفية توزيع الإيرادات النفطية.
من جانب خير، نتيجة لهذه التحديات فقد تعرّض الاقتصاد الليبي لضربات موجعة. فقد انخفضت معدلات الإنتاج النفطي إلى مستويات متدنية، ما أدى إلى نقص في الإيرادات وتفاقم العجز المالي. هذا الوضع ساهم في التأثير السلبي على حياة المواطنين الليبيين، حيث ارتفعت معدلات البطالة، وزادت أسعار السلع الأساسية، فضلا عن تدهور الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم.
في هذا الإطار، يُصبح التساؤل: هل تنجح محاولات تقاسم عائدات النفط، بين حكومتي الشرق والغرب، في ليبيا؟
في ظل الانقسام السياسي في ليبيا، ووجود حكومتين متنافستين: الأولى في الشرق (مقرها في بنغازي)، والأخرى في الغرب (مقرها في طرابلس)، تظل مسألة تقاسم عائدات النفط قضية حساسة ومُعقدة للغاية؛ وذلك نتيجة تحديات متعددة تواجه هذه المسألة.
أولا، صعوبة السيطرة على الموارد النفطية؛ ففي ليبيا تتركز معظم الموارد النفطية في مناطق الوسط والجنوب، بينما توجد معظم البنية التحتية الحيوية، مثل الموانئ والمصافي، على طول الساحل الشرقي والغربي. وهذا يعني أن كل من الحكومتين تسعى إلى السيطرة على هذه الموارد، لتمويل نشاطاتها وتحقيق أهدافها السياسية.
ومن ثم، كوّنت كل من الحكومية “الشرقية” و”الغربية” مؤسسات خاصة بها، لإدارة القطاع النفطي؛ لكن المؤسسة الوطنية للنفط (NOC) في طرابلس، هي الكيان المعترف به دوليا، وهي من يُدير معظم عمليات تصدير النفط ولإيراداته.
ثانيا، عادة ما تحوّل إيرادات النفط إلى المصرف المركزي الليبي، الذي يقع تحت سيطرة حكومة طرابلس. وفي ظل الظروف الحالية، تُعد هذه الإيرادات مصدر التمويل الرئيس لحكومة الغرب. وفي السنوات الأخيرة، كانت هناك محاولات من جانب حكومة الشرق، للسيطرة على جزء من الإيرادات النفطية، لكنها لم تحظ بدعم دولي كافٍ، ما جعلها تعتمد أكثر على مصادر تمويل أخرى.
ثالثا، استمرار الخلاف السياسي؛ إذ بسبب الانقسام السياسي، يظل تقاسم عائدات النفط محط جدل مستمر؛ نتيجة عدم وجود اتفاقية واضحة لتوزيع الإيرادات بين الشرق والغرب الليبيين، ما يؤدي إلى تفاقم التوترات، ويتسبب في عرقلة الإنتاج النفطي أو إغلاق الموانئ النفطية، كما حدث من قبل أكثر من مرة. بل، إن المفاوضات المستمرة بين الأطراف المتنازعة، حول كيفية تقاسم هذه العائدات، لم تُفض إلى حل مستدام.. هذا رغم بعض الاتفاقيات المؤقتة التي تهدف إلى تجنب التصعيد.
ضمن أهم التداعيات الناتجة عن مشكلات النفط الليبي وأبعادها المختلفة، يبدو التأثير على العملة الليبية وسعر الصرف الخاص بها، في مقابل العملات الأجنبية؛ إضافة إلى التأثير على أسواق النفط الدولية، بما يتسبب في الصراع الخارجي حول هذا النفط.
يكفي أن نُلاحظ مدى التأثير على سعر صرف العملة الليبية؛ حيث تحظى أزمة الإغلاقات المتكررة لبعض الحقول في الجنوب الليبي- على الاهتمام في شمال البلاد؛ وذلك من منظور مدى تأثير التراجع في الإنتاج النفطي، على الخدمات عموما، وعلى سعر صرف العملة الليبية أمام العملات الأجنبية بشكل خاص. وبالتالي، فإن مثل هذا التأثير على سعر صرف الدينار، وتراجع قيمته السوقية، ينعكس على كافة أنواع السلع والخدمات في ليبيا؛ من حيث إنها تعتمد بشكل كبير على الاستيراد في توفير السلع الاستراتيجية؛ فما يتم إنتاجه بالداخل الليبي، لا يُغطي إلا قليلا من احتياجات السوق المحلية.
أضف إلى ذلك، تداعيات التراجع في إنتاج النفط الليبي؛ إذ ما بين إنتاج ليبيا النفطي، قبل انتفاضة 17 فبراير 2011، الذي وصل إلى مليون و600 ألف برميل، قبل سقوط نظام معمر القذافي؛ وما يدور حوله هذا الإنتاج، الذي يقترب من حوالي مليون و200 ألف برميل يوميا- يبدو أن فارق 400 ألف برميل يوميا، رغم كبر هذا الحجم، لا يعكس بدقة حجم الاضطرابات التي شهدها قطاع النفط الليبي، خلال السنوات الأخيرة.
وهكذا.. فإن المُفارقة المثيرة، في مسألة النفط الليبي، هي الانقسام بين جغرافية الحقول والآبار، وبين جغرافية توزيع الإيرادات؛ فهذه الأخيرة، تتواجد في العاصمة الليبية طرابلس، حيث مقر حكومة “الوحدة الوطنية”، المنتهية الولاية، التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة؛ في حين أن جغرافية الحقول والآبار النفطية الليبية، تقع معظمها في مناطق سيطرة الجيش الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر، والحكومة المُكلفة من قبل البرلمان.