“البَهْظ” بيه، دور يعتبره البعض أهم أدوار العملاق جميل راتب في السينما، لأسباب عديدة صنعتها ظروف كثيرة نسجتها يد القدر على نحو عجيب.
عام 1985، عام إنتاج فيلم “الكيف” الذي شارك فيه جميل راتب بدور “البَهْظ” بيه – عام ملتهب يشهد العديد من الأحداث التي تشي بكثير من المتغيرات مصريا وإقليميا.. ففي الشهر الثاني من العام، يبدأ العدو الصهيوني انسحابه من لبنان، بعد أقل من ثلاث سنوات من الاجتياح الغاشم في فبراير 1982، كما شهد العام نفسه مقتل سبعة صهاينة على يد جندي الحدود المصري الشهيد سليمان خاطر.. بينما كانت مصر كلها ما زالت تتململ من الوضع الذي فرضته اتفاقية السادات مع العدو الصهيوني.. في السنوات الأولى من حكم الرئيس مبارك الذي بدأ عهده ببعض الإصلاحات؛ لكسب شيء من الثقة لدى جموع المواطنين.
الفيلم كتب قصته والسيناريو والحوار الكاتب محمود أبوزيد، وأخرجه علي عبد الخالق.. كان الثاني للثنائي بعد النجاح الكبير لفيلمهما الأول “العار”.
عندما عُرض الدور على جميل راتب، رفضه في بادئ الأمر؛ بسبب أنه عندما قرأ الورق؛ لم يفهم كثيرا من الكلمات والتعبيرات التي تأتي على لسان الشخصية.. لكن عبد الخالق كان مُصرًّا على جميل راتب لأسباب تتعلق برؤيته للشخصية.. وبعد محاولات عديدة، وافق راتب على أداء الشخصية على مضض.
شخصية “البَهْظ” بيه تاجر المخدرات الذي يوقع بالأخوين “أبو العزم” ويستغلهما في تصنيع مخدرات مغشوشة، يصبح لها أثر مدمر على صحة الإنسان، بعد إضافة مواد كيميائية خطيرة من أجل مضاعفة الشعور بالنشوة والدخول السريع في حالة الغيبوبة اللذيذة – شخصية متعددة الأبعاد، وليس كما يتوهم البعض ذات بُعد واحد.
لا يبحث “البَهْظ” عن المكسب السريع وتكديس الأموال فقط، بل يبدو أنه في حالة عداء تام مع المجتمع.. ما يفسر اسمه الغريب، المرتبط لغويا بالمشقة وثقل الحِمل، وفداحة الثمن.. الثمن الذي سيؤديه أي مجتمع لا يفطن إلى خطورة مثل هذا النموذج الإجرامي.
في أول مشاهد ظهوره في الفيلم يجلس “البَهْظ” على شاطئ النيل، ويمسك بسنارة ويمارس هواية الصيد، وهو في هيئته لا يختلف كثيرا عن رجال الأعمال الذين قدمتهم سينما الثمانينات.. لكن ثمة اختلاف يتمثل في بعض الغموض الذي يحيط بالشخصية التي تشي ملامحها بالأرستقراطية، وتكشف لهجتها عن أصول شعبية، وهو تناقض من الممكن أن يكون مقصودا.. لأن النماذج السيئة تلك والتي ظهرت مع بداية عصر الانفتاح الاستهلاكي، كانت مزيجا من كل ما هو قبيح في طبقات المجتمع المختلفة.. وينتهي المشهد بالصياد وقد أخرج “قرموطا” وضعه في سلته بحرص؛ ومن المعروف أن القرموط كائن لا يعيش في المياه النظيفة، لأنه يتغذى على الفضلات والقاذورات!
يعيش “البَهْظ” وحيدا في هذا المكان المطل على النيل الذي يجرى شاهدا على جرائمه، مع وعد بأن يجرف النهر الخالد كل هذ العفن في يوم من الأيام.. الوحدة والانعزال تليقان بالشخصية المعادية للمجتمع.. حتى أن الرجل يعامل حراسه ومعاونيه بكل احتقار، أما كلابه فأفضل من رجاله كما يوضح للدكتور صلاح أبو العزم في أول لقاء بينهما.
في اللقاء الأول مع مزاجنجي، يكشف البّهْظ رداءة وضعف القصة التي اخترعها مزاجنجي؛ ليخفي المصدر الحقيقي للطبخة (المخدرات المغشوشة).. ورغم أن البَهْظ كان بادئا بالهجوم ومسيطرا على اللقاء، إلا أن محاولات مزاجنجي، الهرب من شباك صياده أضفت على المشهد حسا كوميديا، استطاع البّهْظ احتوائه بالتقدم خطوة والتراجع خطوتين في مناورة ذكية.
سنكتشف بعد ذلك أن البَهْظ جاء من بيئة لا تقل انحطاطا عن تجارة المخدرات، فهو في الأصل “بارمان” ثم صاحب كباريه! قبل أن ينقلب إلى تاجر “كيوف” مغشوشة. بدءا من البن والشاي.. ووصولا إلى الحشيش.. هذه الخلفية ربما تبرر نعومة الشخصية ومقدرتها على نسج أحابيل الغواية، ليس مثل تجار المخدرات.. بل بأسلوب أقرب إلى أسلوب قواد محترف!
حتى أنه يفسر الأمر على نحو “شهواني” فيقول: “الكيف شهوة، والشهوة هي اللي بتشد القرش من جيوب الناس”.
اعترف جميل راتب بعد ذلك أنه ردد بعض العبارات على لسان شخصية البَهْظ، دون أن يكون مدركا لمعانيها.. وربما جاء ذلك في مصلحة الشخصية أيضا، فهي شخصية تعتمد على الاحتيال والتبرير والتشكيك.. لا اليقين والثقة والإقناع.
“تروح فين الشمس من على قفا الفلاح.. دي ساعة الطلق مُرّة يا حبيبي” هذه العبارة هي آخر ما قاله البَهْظ في الفيلم.. وهي عبارة تكشف عن إيمان الشخصية بقدرية كل شيء.. وأن الشر إنما يجري أيضا وفق مشيئة عليا لا سبيل للنجاة لأحد من سيفها.. ولا مناص من الخضوع لها وقت احتدام الألم والاحتياج.
بعد مرور نحوٍ من أربعة عقود من إنتاج “الكيف” نستطيع أن نقول أن “البَهْظ” مازال حاضرا بكل تفاصيله، في حياتنا البائسة.. نستطيع أيضا أن نقول أنه على المستوى الفني والإبداعي ما يزال متميزا بقوة.. فقد قدّم لنا الرائع جميل راتب دورا، مثّل بتفرده قطيعة كاملة مع ما سبقه من أدوار تجار المخدرات وأباطرة التغييب، كما أن ما لحق به من أدوار؛ لم يدانيه روعة وإبداعا على هذا النحو الذي اكتملت له كل عناصر التميز.