رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ” و”الشَّهِيْد”.. ودلالة فاعلية الشاهد المُطلق

مقدمة أصوات

السيد مات.. مع المقاومة حتي آخر نفس. لن نفقد الأمل في النصر وتحرير فلسطين،  ولن نخضع  لحرب  التيئيس التي يشنها  الاحتلال لإفقاد  أمتنا الثقة في نفسها. وفي حقيقة أنها انتصرت عليه وأذلته في طوفان الأقصى كما أذلته في حرب العبور عام1973، أما المتآمرون والشامتون العرب الذين علت علائم الابتهاج وجوههم وتغطيتهم؛ فُجرا في الخصومة وفي الخضوع  للإرادة الأمريكية أو الذين أعمتهم الطائفية البغيضة، وكتموا  فرحتهم في “عبهم” لأنهم كرهوا دور السيد في إفشال مخططهم في أن تحكم جبهة الشام  والبيانوني  والنصرة  سوريا الأبية؛  فنقول  لهم أضحكوا ما شئتم؛ ولكن أوكد لكم أن من يضحك أخيرا سيضحك كثيرا، ومن سيضحك كثيرا هم المقاومون وهم يدخلون القدس منتصرين  بإذن الله ووعده.

———————————————–

“ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي، بذلك، تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور، ومُشاهدة، وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.

وقد وصلنا من قبل إلى التأكيد على اختلاف صيغ “الفعل” في اللسان العربي، ما بين الصيغة التفعيلية والصيغة التقريرية؛ إذ، بخلال الصيغة “التقريرية” التي تستتبع فعلًا أو ينتج عنها، فالصيغة “التفعيلية” للفعل، هي تلك التي يربط من خلالها بين القول والفعل.. مثال: في قول “أعد بـ…”، فإن الوعد ذاته التزام عن طريق الكلمة/اللفظ.

وكما أشرنا من قبل، بالنسبة إلى “أشهد بـ…” أو “أشهد أن…”، فإن ملفوظ “الشهادة” فعل قضائي واعتراف بواسطة الكلمة/اللفظ، حتى قبل أن يُحدد الناطق ما يُشهد عليه. ولعل مما له دلالة، في مسألة مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، أن اعتناق الإسلام “دينا ومُسْتَقَرا” يبدأ بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله”؛ وهذه الشهادة بالتوحيد وبالاعتراف بالرسول، محمد عليه الصلاة والسلام، هي “البوابة الرئيسة” للدخول في هذا الدين “الإسلام”.

بعبارة أخرى، فإن الفعل “أشهد” يعتبر إنجازيًا (تفعيليًا)، عندما يستخدم في صيغة المضارع ومع ضمير المتكلم فهو “قول/فعل”؛ بمعنى أنه يُعد تعبيرا لغويا حيث ينبغي النطق به، فضلا عن كونه حقيقة واقعة لأنه “قيام بالفعل”.

ومن هنا، تتجلى أهمية هذا المصطلح الإنجازي، أي “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والوضع المميز له في الإسلام، وفي كتابه المبارك القرءان الكريم.

ومن هنا أيضا تتجلى أهمية البحث حول مصطلح “ٱلشَّٰاهِدِ”. وفي اللسان العربي، يُعرَّف “ٱلشَّٰاهِدِ” بأنه “الحاضر حدث معين، في مكان وزمان مُحددين، ثم يبينه بالإخبار عنه ويُثبته بالقول”. فـ”ٱلشَّٰاهِدِ” إذن هو “محل الدقة في الإخبار عن حدث معين”، أو كما هو مُفترض. ومن ثم، فـ”ٱلشَّٰاهِدِ” هو نقطة تحول الواقع المرئي إلى فعل لُغوي، ينقل الحقيقة ويُسجلها علنيًا؛ وهو ما يُكسِب “ٱلشَّٰاهِدِ” وضعا مميزا على المستوى الإنساني، وعلى مستوى المجتمع.

كينونة “ٱلشَّٰاهِدِ”، هذه تفرض عليه، لا أن يكون موجودا في الواقع العيني غير اللغوي فقط، بل أن يربط هذا الواقع بتحويله إلى “كود لغوي”، وتقديمه لمن يهمه الأمر في صياغة مناسبة وحقيقية. وبالتالي، يحظى “ٱلشَّٰاهِدِ” بوضع متفرد في اللغة والثقافة والتراث العربي والإسلامي؛ والأهم، في السياق القرءاني بوجه خاص.

من ذلك، ما ذُكِر في سورة المُدثر، في قوله سبحانه وتعالى: “وَبَنِينَ شُهُودٗا” [المدثر: 13]؛ فقد جاء ذكرهم في سياق إعطاء الدليل الإلهي، على منزلة الشخص الذي تتحدث عنه الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية الكريمة، نعني قوله جلَّ جلاله: “ذَرۡنِي وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِيدٗا ٭ وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا ٭ وَبَنِينَ شُهُودٗا ٭ وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِيدٗا ٭ ثُمَّ يَطۡمَعُ أَنۡ أَزِيدَ ٭ كَلَّآۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأٓيَٰتِنَا عَنِيدٗا” [المدثر: 11-16].

في هذا الإطار، لنا أن نُلاحظ أن التنزيل الحكيم يضع نسقا تدريجيا للشهود؛ فـ”الشاهد” المُطلق هو الله عزَّ وجل، و”الشهيد” من أسمائه الحُسنى؛ فهو الحاضر بدليل كل ما خلق، إنه الحاضر المُطلق الذي لا يغيب عن علمه شيء. يقول عزَّ من قائل: “أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [المجادلة: 7]. ويكفي، هنا، أن نتأمل دلالة السياق القرءاني في الآية: الفعل المُضارع، الذي يؤشر إلى الاستمرارية “يَعۡلَمُ”، والإحاطة الإلهية بكل شيء “يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ”.. إلى خاتمة الآية “إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ”.

ولأن الله جلَّ جلاله لا يعلم فقط “مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ”؛ ولا يعلم وحسب ما يدور بين الناس، أيًا كان عددهم، لأنه سبحانه “مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ” (دون تجسيد)؛ فإنه، إضافة إلى هذا وذاك، يعلم ما يحصل في الطبيعة، أيضًا، كما في قوله تبارك وتعالى: “يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ” [الحديد: 4]. ويكفي، هنا، أن نتأمل دلالة التأكيد الإلهي في التعبير القرءاني، الذي يتواكب ويتكامل مع ما ورد في الآية السابقة [المجادلة: 7]، نعني قوله سبحانه: “وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ”. ثم، خاتمة الآية “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ”.

وبالتالي فإذا كان الله تبارك وتعالى هو “الشاهد” المُطلق، وكان “الشهيد” من أسمائه الحُسنى؛ فإن ما توضحه الآيتان السابقتان، هو مضمون “الشهيد”.. وذلك، من حيث “إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [المجادلة: 7]؛ وفي الوقت نفسه، من حيث إن “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ” ومن هنا نعرف دلالات أسماء الله الحُسنى “عَلِيمٌ.. بَصِيرٞ”، التي تتكامل مع اسمه سبحانه “الشهيد”.

وفي هذا الإطار كذلك نستخرج من النص القرءاني، موضعين هامين للتعبير بالفعل “شَهِدَ”، يؤكدان كيف يضع التنزيل الحكيم نسقًا تدريجيًا للشهود:

الموضع الأول، في سورة “آل عمران”، في قوله سبحانه: “شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [آل عمران: 18]؛ حيث يبدأ فعل الشهادة في مُفتتح الآية بـ”شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ…”، ثم يأتي بعد ذلك ذِكر شهود آخرين على مضمون هذه الشهادة، وهم “َٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ”؛ إلا إن الله تبارك وتعالى هو “أصل” هذه الشهادة، ومن ثم ينشأ التدرج في حضور الشهود.

ولعل هذا ما يؤكد من جديد على أن الله جلَّ جلاله هو “الشاهد” المُطلق؛ بل ويؤكد تطابق الشاهد والمشهود له ـ وليس عليه ـ ألا وهو الله عزَّ وجل، باستعمال ضمير الغائب “هُوَ” بما يُكسِب الشهادة القيمة التفعيلية (الإنجازية)، من حيث إنه سبحانه هو الواحد الأحد، الموجود في كل زمان ومكان.. فهو الشاهد لنفسه بنفسه.

أما الموضع الثاني، فتنبع أهميته، كما تؤكد د. هبة مشهور، في بحث لها حول: “الشهادة في القرءان الكريم” (ترجمة: أميرة مختار)، من كونه يعرض حدث الشهادة، كمعيار استراتيجي للتمييز بين موقف النبي عليه الصلاة والسلام، والمشركين، ووضعهما في ثنائية على طرفي نقيض. ويتبدى هذا بوضوح، عبر آيتي سورة الأنعام، في قوله سبحانه: “قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ” [الأنعام: 19]؛ وفي قوله تعالى: “قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 150].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock