على مدار الأشهر الأخيرة، تصاعدت نُذر الصراع في منطقة القرن الأفريقي، حيث تتنامى المخاوف من اندلاع حرب في المنطقة، بين طرفي الأزمة الأساسيين الصومال وإثيوبيا. إذ في هذه الحال، سوف تكون التداعيات مؤثرة على دول المنطقة، التي تعاني نزاعات داخلية متجذرة؛ بل وعلى حركة التجارة العالمية التي يمر جزء منها عبر البحر الأحمر.
واللافت.. أن وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر يُشكّل أحدث التطورات الاستراتيجية المتعلقة بهذا الممر المائي، وربما أحدث التطورات المائية على مستوى العالم؛ حيث أبرمت إثيوبيا اتفاقا، في الأول من يناير 2024، لتأمين المرور المباشر إلى البحر الأحمر عبر إقليم “أرض الصومال” اعترفت بموجبه أديس أبابا باستقلال الإقليم، في مقابل حصولها على ميناء وقاعدة عسكرية على سواحل البحر الأحمر.
يعتبر الصومال وإثيوبيا من أبرز دول المنطقة التي شهدت توترات وصراعات مستمرة عبر التاريخ، بسبب عوامل متعددة تشمل الخلافات الحدودية، والتدخلات الإقليمية، وتصاعد دور الجماعات المسلحة. هذه الصراعات لم تقتصر فقط على البلدين، بل امتدت لتؤثر على الدول المجاورة مثل جيبوتي، إريتريا، وكينيا، ما جعل استقرار القرن الأفريقي مرهونا بحل النزاع بين الصومال وإثيوبيا.
وتعتبر الحرب الصومالية الإثيوبية، التي اندلعت في عام 1977، أبرز لحظات الصراع بين البلدين. حينذاك سعى النظام الصومالي بقيادة سياد بري إلى ضم إقليم أوجادين بالقوة، ما أدى إلى نشوب حرب دامية بين البلدين. تدخلت قوى خارجية مثل الاتحاد السوفييتي لدعم إثيوبيا، بينما تلقى الصومال دعما من الولايات المتحدة وبعض الدول العربية. وقد انتهت الحرب بخسارة الصومال وانسحاب قواتها، لكن النزاع حول أوجادين ظل قائما واستمر في تأجيج التوترات بين البلدين.
وبعد سقوط نظام سياد بري في الصومال عام 1991، انزلقت البلاد في حرب أهلية شاملة؛ استغلت إثيوبيا هذا الفراغ السياسي لتعزيز نفوذها في المنطقة، فتدخلت عسكريا عدة مرات في الصومال تحت ذريعة محاربة الجماعات المسلحة مثل حركة الشباب، وهو ما زاد من حدة التوتر بين البلدين. وعلى الرغم من محاولات الوساطة الإقليمية والدولية، فإن العلاقة بين الصومال وإثيوبيا ظلت متوترة، مع تدخل إثيوبيا المستمر في الشئون الداخلية للصومال.
هذه التدخلات ساهمت في تصاعد التوتر بين البلدين، حيث اعتبرت الصومال هذه التحركات تعديا على سيادته. هذا رغم أن إثيوبيا كانت واحدة من أبرز الدول التي ساهمت في تشكيل بعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في الصومال (أميصوم).
تسعى إثيوبيا من خلال تدخلاتها إلى تحقيق مجموعة من المصالح الحيوية. أبرز هذه المصالح هو تأمين حدودها ضد الجماعات المسلحة، خاصة حركة الشباب التي تمثل تهديدا للأمن الإثيوبي. كما تهدف إثيوبيا إلى منع الصومال من أن تصبح دولة فاشلة، لكي لا تُشكّل تهديدا على استقرار المنطقة، وهو ما يدفعها إلى التدخل في تشكيل الحكومات الصومالية والمشاركة في عمليات حفظ السلام.
والمُلاحظ، أن العديد من القوى الدولية والإقليمية، تلعب دورا في الصراع بين الصومال وإثيوبيا. الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تقدم دعما عسكريا ولوجستيا لمكافحة الإرهاب في الصومال؛ كما أن الصين وروسيا تسعيان إلى تعزيز نفوذهما في منطقة القرن الأفريقي، من خلال تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري، ما يخلق نوعا من التنافس الجيوسياسي الذي يزيد من تعقيد الصراع. هذا فضلا عن القوى الإقليمية، وفي مقدمتها تأتي مصر وتركيا.
ومن ثم، فإن عدم الاستقرار بين الصومال وإثيوبيا يُشكّل تهديدا كبيرا للأمن الإقليمي في القرن الأفريقي. النزاعات المستمرة تعيق التنمية الاقتصادية، وتؤدي إلى تزايد تهديدات الإرهاب والقرصنة البحرية، ما يؤثر بشكل مباشر على حركة التجارة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن.
كما أن هذا الصراع يعزز من هشاشة الدول المجاورة، ويجعلها عرضة للتدخلات الخارجية؛ خاصة إذا لاحظنا الصراع على الموارد، إذ تتصاعد النزاعات بين دول المنطقة بسبب التنافس على الموارد الطبيعية، خاصة المياه.
ثلاثة مشاهد مستقبلية، تُمثل في حد ذاتها الاحتمالات المتوقعة للصراع المتصاعد بين الصومال وإثيوبيا، هي:
السيناريو الأول، استمرار الصراع: ويتعلق باستمرار الصراع بين الصومال وإثيوبيا، بما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع في القرن الأفريقي. إذ إن تصاعد العنف سيزيد من تدفق اللاجئين ويؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية. كما أن استمرار التوترات سيعوق أي جهود لتحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة.
السيناريو الثاني، حلول دبلوماسية: بمعنى محاولات الوساطة الإقليمية التي يقودها الاتحاد الأفريقي ومنظمة “الإيغاد”، والتي قد تكون مفتاحا لتحقيق حل دبلوماسي للنزاع. إذا تمكنت الدول الأفريقية من التوصل إلى اتفاق سلام بين الصومال وإثيوبيا، فقد يؤدي ذلك إلى تحقيق استقرار نسبي في المنطقة.
السيناريو الثالث، تصاعد التوترات الإقليمية: في حال عدم التوصل إلى حلول دبلوماسية، قد يؤدي النزاع إلى تصاعد التوترات الإقليمية واندلاع حروب بالوكالة. فالقوى الدولية التي تتنافس على النفوذ في القرن الأفريقي، سوف تستغل هذا الصراع لتحقيق مصالحها، ما يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي.
وهكذا.. يُمثل الصراع بين الصومال وإثيوبيا تحديا رئيسا لاستقرار منطقة القرن الأفريقي؛ حيث تتجاوز تداعياته الحدود بين البلدين لتؤثر على دول الجوار مثل جيبوتي، إريتريا، وكينيا، وتلقي بظلالها على الأمن الإقليمي والدولي.
إلا أن ما تجب الإشارة إليه هو الدور التركي، من منظور أن تركيا لها قاعدة عسكرية في الصومال، منذ عام 2017؛ وهو ما يُعزز قدرة تركيا على التأثير في الصراع الداخلي في الصومال. رغم ذلك فإن تركيا لها علاقات اقتصادية متميزة مع إثيوبيا؛ وبالتالي، قد تلعب تركيا دورا متزايدا في الوساطة بين الصومال وإثيوبيا، في إطار المبادرة التي أطلقتها، في 2 يوليو الماضي؛ وبعد جولتي مباحثات، أُلغيت الثالثة التي كانت مقررة في سبتمبر الحالي.
لكن، بعد أن وقَّع الصومال ومصر بروتوكول تعاون عسكريا في أغسطس الماضي؛ أرسلت بموجبه القاهرة شحنتي أسلحة لدعم مقديشيو، يكون من المتوقع أن تلعب تركيا دورا متزايدا في الوساطة بين الجانبين، لأجل أن تستمر في توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي في منطقة القرن الأفريقي.