لعل مما له دلالة، في مسألة مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، أن اعتناق الإسلام بوصفه “دين ومُسْتَقَر” يبدأ بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله”؛ وهذه الشهادة بالتوحيد وبالاعتراف بالرسول، محمد عليه الصلاة والسلام، هي “البوابة الرئيسة” للدخول في هذا الدين “الإسلام”. ومن هنا، تتجلى أهمية هذا المصطلح الإنجازي، أي “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والوضع المميز له في الإسلام، وفي كتابه المبارك القرءان الكريم.
إلا أن “ٱلشَّهَٰدَةِ”، في الاصطلح القرءاني، هي نوع من إثبات وقوع الحدث؛ بمعنى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” تتحول إلى واجب تفرضه العدالة، لتحقيق ضرورة اجتماعية نتيجة لوجود “الشاهد” في الحدث، في وقت وظرف محددين، كما في حالة “الدَّين”.
ولأن “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي بذلك تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”؛ لذا تأتي آية “الدَّين” لتوضح كيف أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” يؤديها “شَهِيدٞۚ”.. هذا، في حين أن المعهود الذهني يُشير إلى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” يؤديها “شاهد”.
فهل يعني هذا أن ثمة اختلاف بين الشاهد والشهيد؛ وذلك من منظور من يقوم بفعل “ٱلشَّهَٰدَةِ”؟
كنا من قبل قد تناولنا حالة شهيد “الدَّين” هذه الحالة التي يؤكدها قوله عزَّ وجل، في سورة البقرة: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ
فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ” [البقرة: 282].
وقد أكدنا -من قبل- على ملاحظة أن الآية أطلقت اسم “الشهيد” على الإنسان الذي شهد البيع والعقد، سمعيا وبصريا، وأدى شهادته بما شهد، كما حظرت الإضرار به “وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ”. أيضًا، لنا أن نُلاحظ أهمية الإشارة في قوله عزَّ من قائل، إلى “وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ”؛ وكما يذكر المفكر السوري، محمد شحرور -رحمه الله- فإن الأهمية هنا، في الإشارة إلى “مِن رِّجَالِكُمۡۖ”، تعود إلى أن “الشهيد” لا مؤنث له، فالرجل شهيد، والمرأة شهيد.
والدليل، أن الإشارة إلى الجمع “ٱلشُّهَدَآءِ”، وليس إلى “الشهيدات”، وذلك كما في قوله تبارك وتعالى: “فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ”؛ وهو ما يؤكد كذلك، خلافًا للفقه السائد، أن شهادة المرأة تُعادل شهادة الرجل في كل الحالات، إلا في هذه الحالة؛ أي ما عدا عقود البيع فقط.
فهل الشهيد في هذه الحالة، يختلف عن الشاهد؟
الشاهد والشهيد، كل منهما اسم مفرد؛ وإن كانا يختلفان في الاشتقاق، إلا أنهما من أصل لساني واحد، هو فعل “شهد”. ومن منظور فعل القيام بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يبدو أن هناك اختلاف بين الشاهد والشهيد؛ وهو الاختلاف الذي يتضح من خلال آيات التنزيل الحكيم.
فعبر آية “الدَّين”، نجد قوله سبحانه وتعالى: “وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ”، بما يؤكد أن “شَهِيدٞ” الحدث، أو في حالتنا هذه شهيد الدَّين، هو من حضر الواقعة؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.
ولعل هذا ما يتأكد، إذا لاحظنا قوله سبحانه: “فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا” [النساء: 41]؛ إذ، إن الشهيد، هنا، لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها. وهي الدلالة التي تتبدى بشكل أكثر وضوحًا، في قوله تعالى: “مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [المائدة: 117].
وعبر هذه الآية الكريمة، لنا أن نُلاحظ:
من جانب، التأكيد على أن الشهيد هو من يمتلك المعرفة العينية “الحضورية” بالشيء أو بالحدث، وذلك من خلال قوله عزَّ وجل، على لسان عيسى عليه السلام: “وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ”، حيث إن “مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ” هي دلالة واضحة على المعرفة العينية الحضورية بالسمع والبصر؛ إذ بعد ذلك، لم يكن هناك “شهيد”، كما ورد على لسان نبي الله عيسى: “فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ”.
من جانب آخر، تأكيد على التأكيد بأن الشهيد هو من يمتلك المعرفة العينية “الحضورية” بالشيء أو بالحدث، وذلك من خلال قوله عزَّ من قائل، أيضا على لسان عيسى عليه السلام: “فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ”، حيث إن تأكيد نبي الله عيسى بأن الله جل جلاله “عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ”، يؤكد على ذلك. ومن ثم، لما كان الله سبحانه وتعالى “كامل المعرفة” بكل شيء، سمعيا وبصريا وحضوريا (دون تجسيد)؛ فهو إذن “عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” دون حضور ذاتي. ومن هنا، نعرف دلالة قوله جل جلاله: “ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [البروج: 9].
وهو ما يتأكد، إضافة إلى التأكيد السابق، من خلال قوله تبارك وتعالى: “قُلۡ مَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٖ فَهُوَ لَكُمۡۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٞ” [سبإ: 47].. وقوله تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [الحج: 17].
وبالتالي، فإذا كان الله تبارك وتعالى هو “الشاهد” المُطلق، وكان “الشهيد” من أسمائه الحُسنى؛ فإن ما توضحه الآيات البينات، في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [المجادلة: 7]؛ وفي تعالى: “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ” [الحديد: 4]؛ هو مضمون “الشهيد”.. ومن هنا، نعرف دلالات أسماء الله الحُسنى “عَلِيمٌ.. بَصِيرٞ”، التي تتكامل مع اسمه سبحانه “الشهيد”.
وللحديث بقية.