رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. مقدمة في مفهوم “الشاهد”

الشاهد والشهيد، كل منهما اسم مفرد؛ وإن كانا يختلفان في الاشتقاق، إلا أنهما من أصل لساني واحد، هو فعل “شهد”. ومن منظور فعل القيام بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يبدو أن هناك اختلاف بين الشاهد والشهيد؛ وهو الاختلاف الذي يتضح من خلال آيات التنزيل الحكيم.

فمن خلال فعل “شهد”، يبدو أن هناك شهادتين.. إحداهما يؤديها شاهد، والأخرى يؤديها شهيد. فما الفارق بين هذه وتلك؛ أو بالأحرى ما الفارق بين الشاهد والشهيد؟

الشاهد والشهيد

لم يرد الشاهد ضمن أسماء الله الحسنى، ولكن ورد الشهيد كأحد أسمائه تبارك وتعالى؛ كما في قوله جلَّ جلاله: “هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا” [الفتح: 28]. وهنا، لنا أن نُلاحظ التعبير القرءاني “كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا”، الذي ورد في عددٍ من آيات التنزيل الحكيم. يقول سبحانه: “وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا” [النساء: 79]؛ ويقول تعالى: “لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا” [النساء: 166].

وقد وصلنا في مقال سابق إلى أن الشهيد هو من يمتلك المعرفة العينية “الحضورية” بالشيء أو بالحدث؛ بمعنى أن الشهيد هو العارف بالشيء أو الحدث، الذي أدى، أو يؤدي، أو سوف يؤدي، شهادته به للآخرين؛ حينما يُطلب منه ذلك. وقد وصلنا إلى الاستدلال على هذا المعنى، عبر قوله عزَّ وجل: “مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [المائدة: 117].

إذ، إن تأكيد نبي الله عيسى من خلال قوله عزَّ وجل: “وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ”، يؤكد المعنى؛ حيث إن “مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ” هي دلالة واضحة على المعرفة العينية الحضورية بالسمع والبصر؛ إذ، بعد ذلك، لم يكن هناك “شهيد”، كما ورد على لسان عيسى عليه السلام: “فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ”.

ومن هنا، يبدو مضمون الدلالة في تأكيد نبي الله عيسى بأن الله جلَّ جلاله “عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ”؛ إذ، لما كان الله سبحانه وتعالى “كامل المعرفة” بكل شيء، سمعيًا وبصريًا وحضوريًا (دون تجسيد)؛ فهو إذن “عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” دون حضور ذاتي. ومن هنا، نعرف دلالة قوله جلَّ جلاله: “ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [البروج: 9].

فماذا إذن عن الشاهد؟

دلالة الشاهد

لعل المدخل إلى دلالة الشاهد، هو قوله سبحانه: “قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٭ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ٭ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ” [يوسف: 26-28].

هنا، يبدو بوضوح أن “شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ” لم يكن حاضرًا الواقعة، بين نبي الله يوسف عليه السلام، وامرأة العزيز، لأن تلك الواقعة كانت وراء الأبواب المُغلقة، بدليل قوله تعالى: “وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ…” [يوسف: 23]. وبالتالي، فقد كانت شهادة “شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ” هي شهادة “شخص” لم يشهد حضوريًا رأي العين، بالسمع والبصر، ما حدث.

بعبارة أُخرى، يأتي التعبير القرءاني “وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ”، للدلالة على شهادة “شَاهِدٞ” لديه خبرة، أو دراية، أو أرضية معرفية، و/أو منطقية. إذ، تبعًا للسياق القرءاني في الآية الكريمة، فقد كانت الشهادة معرفية منطقية، من خلال الاحتمالين اللذين جاءا على لسانه: “إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٭ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ”. ومن ثم، فعندما “رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ”؛ وهو ما يؤكد أن الشاهد هو “من يشهد بالقرائن وليس بالعيان”.

يعني هذا، في ما يعنيه، أن الشاهد هو “من يشهد بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يشهد بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث. ومن هنا، نُدرك، بحسب تعبير المفكر السوري محمد شحرور، رحمه الله، أن شهادة الشهيد أقوى من شهادة الشاهد.

الحضور والمعرفة

الفارق إذن بين الشهيد والشاهد هو الحضور والمعرفة، أو تحديدا الشهادة “الحضورية” والشهادة “المعرفية”. ولعل هذا الفارق يتضح أكثر من خلال قوله تبارك وتعالى: “وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ” [الأعراف: 143]. إذ هاهنا فقد أراد موسى عليه السلام أن ينتقل من مرتبة “الشاهد”، الذي يعرف الله سبحانه وتعالى “شهادة معرفية”، إلى مرتبة “الشهيد”، الذي يُريد أن يعرف الله تبارك وتعالى “شهادة حضورية”، أي أن يرى واحدية الله تعالى بالسمع والبصر. ولما لم يكن ذلك ممكنًا، فقد ورد السياق القرءاني، تكملةً للآية الكريمة، عبر قوله سبحانه: “قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ” [الأعراف: 143].

هذا عن شهادة الرسل عليهم السلام جميعا، بواحدية ووحدانية الله تبارك وتعالى؛ فشهاداتهم جميعا “شهادة معرفية”، وليست “شهادة حضورية”؛ إذ لا أحد منهم رأى الله جلَّ جلاله.

فماذا عن شهادة الرسل للأمم، أو على الأمم، من الناس.. هل يمكن لرسول أن يكون “شهيدًا”، و”شاهدًا” في الوقت نفسه، على الناس؟

نعم بالتأكيد؛ إنه الرسول الكريم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام..

فمن حيث كونه “شهيدًا”، يقول سبحانه وتعالى: “فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا” [النساء: 41]؛ إذ، إن الشهيد هنا لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها. وهي ذات الدلالة التي ترد في قوله سبحانه: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ” [النحل: 84]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ…” [النحل: 89].

ولنا أن نُلاحظ هنا، كيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”، أي شهيدًا على كل شهيد من كل أمة. ليس فقط، ولكنه سيكون كذلك شهيدًا على أمته؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ، إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.

في هذا الإطار، يكون الرسول “شهيدًا” أي يتسم بـ”المعرفة الحضورية”.

فكيف إذن يكون الرسول شاهدًا؟

للحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock