بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
بعد عام كامل من هو الخاسر الأكبر من طوفان الأقصى؟
من هو الطرف الذي عجز عن تحقيق والحفاظ على أي إنجاز من هذا الحدث ومن التفاعلات الصراعية والتفاوضية التي ارتبطت به على مدى ١٢شهرا تكتمل اليوم؟ ما هي القوة التي كان حصادها هشيما من هذا المتغير الكبير والذي تحول إلى شبه حرب إقليمية تشغل رقعة واسعة في الشرق الأوسط لم يستثن منها إلا إقليم شمال إفريقيا. حرب اتسع نطاقها من غزة (١٪ من مساحة فلسطين التاريخية) تتمدد نارها من إيران إلى الجزيرة العربية في اليمن ومن غزة إلى كامل المشرق العربي: لتشمل فلسطين ولبنان في حرب كاملة الأوصاف وسوريا والأردن والعراق في حرب منخفضة أو متوسطة الشدة.
المثير للدهشة هو أنه من المألوف أن يكون الفائز الأكبر والخاسر الأكبر من بين أطراف الحرب المباشرة أو من بين الأطراف التي تمثل ثقلا وازنا في معادلة هذه الحرب.
في حالة مخاض طوفان الأقصى ويا للغرابة فإن المهزوم الأساسي الذي خرج من رحمها كان هو الطرف الذي رفض أن يستفيد من النصر الهائل الذي منحه له كأمة هجوم غلاف غزة. هجوم مباغت دمر جدار الردع الإسرائيلي وأحدث فيه ثقبا أثبتت الأحداث اللاحقة ومنها وصول الصواريخ الإيرانية وصواريخ حزب الله وصواريخ المقاومة العراقية لكامل جغرافيا فلسطين التاريخية والجولان المحتل، أنه ثقب لم ولن يسد إلى مدى غير منظور.
نصر أعطاه فرصة هائلة ليس حتى التحرر التام من الهيمنة الأمريكية على شؤونه ولكن على الأقل لتحسين شروط التفاوض والتمتع بهامش حرية حركة نسبي بدل حالة تلقي الأوامر أو فرض واشنطن عليه أمرا واقعا مريرا ليس أمامه سوى قبولها. حالة لخصها ترامب بطريقته الساخرة من ضعف العرب عند نقله السفارة الأمريكية إلى القدس واعترافه بها عاصمة موحدة لدولة الاحتلال: قيل لي لا تتخذ هذه الخطوة سينقلب العالم العربي وتهدد مصالحنا اتخذت القرار ولم يحدث أي شيء.
المهزوم الكبير الذي طلب لنفسه الهزيمة ولا يزال هو النظام العربي الرسمي. بعبارة تأسيسية يمكن القول إنه كان في الكفة الخاسرة لسبب بسيط هو أنه سمح لخصومه الحقيقيين وهم إسرائيل والولايات المتحدة والغرب بالإفلات من معظم الهزائم التي كانوا ليتكبدونها من مفاجأة المقاومة المزلزلة في طوفان الأقصى، وحرم أصدقاءه الحقيقيين وهم المقاومة العربية في فلسطين ولبنان وغيرها من جزء كبير من مكاسب كانوا ليحققونها لو أن وحدات هذا النظام تصرفت بالحد الأدنى من الرشادة السياسية فلم يكن متوقعا منها أصلا سلوك الجسارة والمخاطرة.
البداية الخاطئة للنظام العربي قادت إلى النهايات الخاطئة والخسائر المحققة وأول هذه البدايات كان الفهم المغلوط لحدث طوفان الأقصى من قبل الغالبية الساحقة من وحدات هذه الدول سواء تلك التي تورطت في التطبيع مع إسرائيل أو التي كانت على شفا حفرة من التطبيع وما زالت.
نظرت هذه الدول للحدث كمؤامرة إيرانية نفذتها حماس لقطع الطريق على مسيرة التطبيع الإبراهيمي خاصة بعد خطاب بايدن عن «ممر بهارات» الذي يدمج إسرائيل في المنطقة بتطبيع مع السعودية وخطاب نتنياهو بعده في سبتمبر ٢٠٢٣عن تحالف عربي إسرائيلي معادي لإيران ولا يشترط أطرافه هذه المرة حل قضية فلسطين.
هذا الفهم المغلوط قاد لفهم آخر مغلوط حكم سلوك النظام العربي وهو أن حماس هي فرع للإخوان المسلمين وليست حركة تحرر وطني، والسماح لها بجني ثمار الانتصار في ٧ أكتوبر هو تشجيع لصعود الإسلام السياسي في المنطقة مرة أخرى بعد خسوفه. قاد هذا أيضا لاتفاق أركان هذا النظام على فهم كارثي من الناحية السياسية ألا وهو أنه لا يجب الحيلولة بين إسرائيل واستعادة زمام المبادرة وهزيمة حماس وحزب الله باعتبارهما امتدادا لنفوذ إيران التي باتت وحدات النظام العربي في ظل هذا النمط من التفكير الاستراتيجي تراها العدو وليس إسرائيل. مرة أخرى خدع الإسرائيليون والأمريكيون حلفاءهم العرب بأنهم سيقضون على حماس فيما لا يزيد عن ٣ أو ٤ شهور كما سبق وأن وعدوهم بنصر ساحق وسريع يدمر حزب الله في ٢٠٠٦. لكن واشنطن تخدع فقط من يريد أن ينخدع والتحليل البنيوي للنظام العربي الرسمي يشير إلى تجذر نخبة محلية مسيطرة ارتبطت مصالحها الاجتماعية مع المركز الرأسمالي العالمي وهذه النخبة يناسبها نهج التطبيع ومسار التسوية مهما كان غير عادل أو منصف، المهم أن تبتعد هذه النخبة بشقيها المدني وغير المدني عن أي مواجهة تعكر نمط الحياة التي حصلت عليها ولا تريد العودة لحياة آبائها وأجدادها في سنوات المواجهة التي اتسمت بالعمل الشاق في التنمية بالداخل والتضحيات من أجل الأمن الجماعي العربي في الخارج. لقد وصل الأمر ببعض الآراء داخل النظام الرسمي العربي إلى حد وصف الصراع الجاري في المنطقة بأنه صراع إيراني ـ إسرائيلي لا ناقة لنا فيه ولا جمل. كانت نتيجة هذا التفكير أن خضع النظام الرسمي العربي لكل إملاءات واشنطن:
مهما وصلت حرب الإبادة في غزة من قتل لأشقائكم: انتحوا جانبا ولا تفعلوا أي شيء حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها. لكن لا تفكروا أبدا في استخدام ورقة من أوراق القوة لديكم «كانت كفيلة بوقف نتنياهو عند حده وكانت كفيلة أن نحتفل اليوم في ذكرى ٧ أكتوبر بانتصار عربي حقيقي».
تفرض إسرائيل حصارا على جميع المعابر بما فيها معبر رفح ليصبح الألوف من أشقائكم على شفا الموت جوعا أو مرضا فلا تتحركوا لكسر هذا الحصار وإنقاذهم من حرب التجويع.
تشغل واشنطن حلفاءها العرب في لعبة الوساطة ومفاوضات الباب الدوار حول اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة. المشاركة في خديعة إيران لكي تمتنع عن الرد على جرائم اغتيال هنية وشكر بحجة أن ذلك سيعرقل وقف الحرب في غزة واستغلال يد طهران المقيدة وقتها في إطلاق يد نتنياهو يجول ويصول في السماوات العربية ويحقق بها كل مكاسب الشهرين الأخيرين.
لكن الإيرانيين أدركوا بعد اغتيال حسن نصر الله أنهم خدعوا فردوا بهجوم الصواريخ الذي حقق إصابات في قلب إسرائيل وتعهد نتنياهو برد غير مسبوق على إيران قد يشعل المنطقة كلها.
خسر النظام العربي أمنه وهو الذي نأى بنفسه عن الحرب وترك بني قومه ودينه تحت رحمة إسرائيل. وبات الآن مهددا بحرب قد لا تبقي شبرا إلا وتصل إليه. لقد وصل الأمر بكتاب أمريكيين إلى تبني أن الوقت مناسب لهجوم إسرائيلي كاسح مدعوم أمريكيا للقضاء على البرنامج النووي والصاروخيّ ومنشآت الطاقة في إيران. لقد وصلت نذر الشر المستطير لملابس النظام الرسمي الذي تخيل أنه سيكون بمأمن لو ترك غزة تموت. وبدأ الإعلام في مناقشة احتمال قيام إيران في حال تعرضها لهجوم كاسح بشن هجمات انتقامية على منشآت النفط في بعض دول الخليج الحليفة لواشنطن. المخيف أن بعض الأقلام الأمريكية المنحازة لإسرائيل تلمح إلى أنه حتى لو كان هذا هو ثمن التخلص من برنامج طهران النووي فهو ثمن يمكن القبول به.
لم تخسر المقاومة الجسورة وإيران التي قبلت المخاطرة لكن خسر القاعدون العرب.