ليس سرًّا أن سحر الكون يكمن في قلوب العاشقين، وليس سرًّا أن القلب العاشق مصباح الكون الذي أضاءه الله بلمسته الحانية. قلب العاشق يختصر جمال الكون، يُودِعه حبه ويبثه أملًا ونورًا وخيرًا وجمالًا..فما بالنا لو كان القلب العاشق قلب شاعر؟
هكذا يتساءل المترجم الحسين خضيري في مقدمته لديوان “غزليات عارف خضيري” للشاعر عارف خضيري الذي يصفه بأنه فيلسوف وشاعر ومفكر، أخذ من الصوفية شفافيتها، ومن الشرق أصالته، ولعل تفرده الذي يتمتع به ليس وليد صدفة، إنه نتاج تأملاته في مفردات هذا الكون، ومعرفة دقائقه التي لا يشي بها الكون سوى لشاعر فيلسوف من هذا الطراز، ذاكرا أن الحب منبع كل خير في النفس الإنسانية، يدعونا إليه هذا الديوان، ونستنشق عبقه عبر روافده التي تجري بنا من قصيدة إلى أخرى.
ديوان غزليات عارف خضيري، الذي يضم أربعين قصيدة غزلية؛ كتبت ومزجت برقة شعرية تنم عن موهبة خلاقة وخيال متدفق، وصدر عن دار خطوط وظلال، تقول عن قصائده سيلفيا لقمان، رئيسة نادي الشعراء في ليفربول بإنجلترا، إنها تدهش من يقرأها وتفتنهم بأسلوبها عبر صفحات من السحر والخيال الروحاني، مضيفة أن الشاعر ما إن ينساب بقاربه ليعبر السبعة أبحر، ما هي إلا لحظات ونُفتن حين نتعمق في صفحات الديوان فنعانق أفراح وجماليات مصر القديمة.
أما البروفيسور د. ساجد الرحمن الصدّيقي فيقول عن عارف إنه فنان ماهر يتغنى كفيلسوف في قصائده، واضعًا إياه في مصاف الشعراء المشاهير في الشرق؛ كحافظ وعمر الخيام والرومي وإقبال، ذاكرا أن غزليات عارف خضيري ما هي إلا مجموعة شعرية رائعة بحق، إنها قصائد عميقة مفعمة بالحياة، تثير الحس الجمالي داخل القارئ، وفيها تناغم جمالي شعري سام، وبنية شعرية متناسقة، مؤكدا أننا هنا أمام ديوان شعر سيتبوأ موقعه بين دواوين شعراء الحب العظام.
نهرا كهرمان
في غزليات عارف خضيري يتربع الحب على عرش قصائده، مُعبرا عنه بلغة رقراقة صافية تعزف على أوتار المشاعر الإنسانية، نافذة إلى أعماق القلوب بسهولة، في قصيدته المرآة يقول:
مبارك أنت يا محبوبي
مبارك جسدك وروحك معًا
لأن فيك تلتقي
كنوز الأرض وكنوز السماء.
وفي قصيدته ظلال رموشك يصف الشاعر عينيْ حبيبته بأنهما نهران من الكهرمان في لحظة البكور، ترنيمتان للحنين، ساحرتان وحانيتان، جزيرتان للحب في وقت الغروب، بينما ليلًا تصبحان نجمتين أُفعمتا نشوة وفتنة.
عارف خضيري الذي يكتب قصائده في حب حبيبته ليلا وهو مبتسم، بينما عيناه تحلمان بها، حينما ينظر إلى السماء يدرك أن محبوبته أكثر جمالا من البدر، كما يرى في عينيها ضوء القمر، شروق الشمس ولون النهر، يعلن هنا في غزلياته أنه سيكتب عن حبيبته وعن عينيها ألف قصيدة وقصيدة، بينما نراه يصف الحب بأنه يكون حين لا يكون بوسعنا أن نعبر عما نشعر به نحو شخص ما، حين لا يغدو للكلمات معنى، معلنا أنه يحبها من أجلها ومن أجل الحب، لا من أجل أية أشياء أخرى.
الشاعر الذي يتساءل هنا كيف يخط قصائد حب في زمننا الغريب، حيث لا مكان فيه للشعر، ولم تعد الناس شغوفة بالحب والغرام والشعر وقوافيه، مطالبًا حبيبته أن تسامحه إذ لم يتمكن من كتابة قصية حب عنها وعن شفتيها، وألا تبكي حينما يموت، بل عليها أن تبتسم الابتسامة التي يحب أن يراها على ثغرها، داعيًا إياها إلى الذهاب إلى قبره لترتل قصيدة حب، لأنه لا يستطيع أن يتحمل أن يرى دموعا في العيون التي أحبها، نجد هنا كم تسيطر مشاعر الحب على قصائده، إذ ترك نفسه للحب يوجهه أينما يشاء، دون أن يعارضه في شيء، بل يقول له ها أنا طوع أمرك فأمرني بما تريدني أن أفعله في محراب العشق، لكن ورغم كل ما كتبه الشاعر من قصائد حب هنا إلا أنه يشعر أنه لم يكتب عنها ما يريد، متعجبا كيف يمكن للغة أن تحيط بحُسن حبيبته!
وها هو يجعلنا نعرف السبب الذي من أجله راح يكتب قصائد حبه لحبيبته:
كتابة قصائد حبي لك
يا حبيبتي
تجعل حياتي تستحق أن تعاش
تضيف معنى جديدًا لحياتي
تمنحني غاية ورؤية
وفيضًا من الحبور.
شاعر التروبادور الحديث
في غزلياته لا يرى الشاعر نفسه ومحبوبته شخصين اثنين، بل يراهما واحدا ممتزجا، ذاب كل منهما في الآخر عشقا وهوى:
لأننا في حالة حب
لا نقول أنا وأنت
لأنني ذبت فيك
وأنت ذبتِ فيّ.
الشاعر الذي يعلن هنا عن حبه الشديد لمحبوبته، لأنه يرى أن الحياة ستكون أكثر جمالًا بحبه لها، ينتقي من المفردات ما يتناسب وحالة الحب المسيطرة عليه، والحب هنا لا يقتصر على الأنثى فقط، بل إنه يذهب إلى كل ما هو جميل وإنساني، وكما يقول المترجم، الذي لم ينجز ترجمة هذه الغزليات لأنها رُشحت لجائزة جريفن الكندية، ولا لصلة القرابة بينه وبين الشاعر، بل لاكتشافه العالم الصوفي للشاعر، إنه يعبر البحار، يتسلق التلال، يجوب الصحارى، يُحلق في السماء، ويلتقي الجن في جزر نائية ليأتي لمحبوبته بلآلئ وزهور نادرة يبسطها عند قدميها.
وبعد أن علم أن الحياة قصيرة، يرجو حبيبته ألا يُضيّعا وقتهما في فراق، خاصة وأن كل ما يريده في الحياة هو أن يحبها وتحبه، معلنًا هنا خسارته لحروب كثيرة خاضها، متذكرًا كل المحن والمواجع والإحباطات التي تعرض لها، جاعلًا إيانا نعايش معه، وهو برفقة محبوبته، كيف يكون الحب بكل تفاصيله المبهجة والمحزنة، عبر لغة بسيطة، استطاع المترجم أن ينقلها إلى العربية دون عناء وبطريقة توحي أنها كُتبت بالعربية لا بغيرها.
بقي ذكْر أن الشاعر عارف خضيري الذي ولد في الأقصر عام 1948 وقضى فترتيْ طفولته وشبابه في أسوان، يكتب باللغتين العربية والإنجليزية، ويتمتع بمكانة متميزة بين الشعراء العرب المعاصرين، عاش حياته متنقلًا بين بلدان شتى، يطلق عليه النقاد في الغرب شاعر التروبادور الحديث، إضافة إلى اشتهاره عند الملايويين بالشاعر الجوّال، فيما أطلق عليه النقاد العرب لقب شاعر المهجر الأسيوي.