ما بين الأول من يوليو من عام ١٩٦٧، والسابع من أغسطس من عام ١٩٧٠، عرف الكيان الصهيوني حربا جديدة من نوعها؛ لم يألفها منذ تأسيسه على أرض فلسطين عام ١٩٤٨.
واللافت هنا.. أن العدو واجه هذه الحرب بعد أسابيع معدودة، من إنجازه العسكري الأبرز، في صيف العام ١٩٦٧.
فعلى مدار ألف يوم تقريبا، وَاجَهَ العدو على الجبهة المصرية، ما عُرِفَ لاحقا باسم “حرب الاستنزاف”، وعلى عكس جولات الصراع السابقة؛ لم تكن هذه الحرب مواجهة مباشرة بين جيوش نظامية؛ بل كانت أشبه ما تكون بحرب العصابات والأنصار، بما تضمنته من هجمات خاطفة وضربات سريعة، تشابه تلك التي كانت تتعرض لها -في الوقت ذاته- القوات الامريكية في فيتنام.
كلفت الحرب، التي نفّذ الجيش المصري خلالها، آلاف العمليات المتنوعة ضد العدو، ما بين زرع ألغام وكمائن مُحْكَمَة وقصف مركز بالمدفعية وغيرها- أكثر من ألف قتيل؛ وفقا للدبلوماسي والمؤرخ العسكري الصهيوني ناثانيل لورش، واضطرتها كما تؤكد الصحفية الصهيونية ايزابيلا جينور لأول مرة في تاريخها، إلى القبول بوقف إطلاق النار، ما مهّد الطريق للجيش المصري لاستكمال استعداداته لمعركة العبور في السادس من أكتوبر ١٩٧٣.
واليوم.. وبعد عام كامل على انطلاق معركة “طوفان الأقصى” على يد المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر من عام ٢٠٢٣، يرتسم كابوس حرب استنزاف جديدة في مخيلة الصهاينة؛ لا سيما في ظل اتساع رقعة المعركة وامتدادها إلى جبهة جنوب لبنان.
فالجيش الصهيوني استنزف على مدار عام كامل في قطاع غزة، ورغم كل ما ارتكبه من مجازر بحق سكان القطاع؛ فقد عجز عن تحقيق أيٍ من الأهداف المعلنة للمعركة: استعادة الأسرى الصهاينة – إنهاء وجود المقاومة في غزة – انشاء نظام بديل في القطاع.
ويقولها الكاتب الصهيوني عاموس هرئيل صراحة في صحيفة هآرتس حين يعترف أنه “في غزة، لم تحقق إسرائيل أهداف الحرب، وحماس لم تستسلم، ولم يعد 101 مخطوفا”.
أما على الجبهة اللبنانية فان “إطلاق الصواريخ على شمال البلاد يتوسّع، ويتسبب بسقوط مزيد من القتلى”.
ويخلص هرئيل في مقاله إلى ما يقلق حكومته حقا، وهو “أنهم في طهران وبيروت يفكرون في خوض حرب استنزاف على المدى البعيد تؤدي -بحسب رأيهم- إلى انهيار المجتمع والاقتصاد الإسرائيليَّين من خلال الاستمرار في إطلاق الصواريخ والقذائف على شمال ووسط البلاد، والهدف بثّ اليأس في نفوس الإسرائيليين من الحياة هنا”.
أما آفي إشكنازي، المحلل العسكري في صحيفة معاريف الصهيونية؛ فكان أكثر وضوحا في مقال له في الصحيفة المذكورة أعلاه حين قال: “إن حزب الله أظهر علامات التعافي في الأيام الأخيرة، حيث يقاتل قوات “الجيش” عند الحدود، ويطلق عشرات الصواريخ على أنحاء مختلفة من إسرائيل وصولا إلى الكارثة التي حصلت في قاعدة غولاني”.
ويضيف إشكنازي في ذات المقال “حزب الله سيحاول تحدي إسرائيل في حرب استنزاف، تجعل الأمر معقدا من وجهة نظر الجيش الإسرائيلي المبني على مبدأ الحروب القصيرة”.
ولا يقتصر الخوف الصهيوني، من انزلاق جيش الكيان الى حرب استنزاف طويلة الأمد، على جبهتي غزة والجنوب اللبناني فحسب، وإنما يمتد هذا الخوف إلى جبهة أخرى هي الضفة الغربية.
إذ يحذر الصحفي الصهيوني شاي آلون في صحيفة معاريف من أن “قوة أعدائنا تزداد في الضفة الغربية، يوما بعد يوم، وإذا لم نتحرك بحزم الآن، فسنجد أنفسنا في مواجهة واقع لا يُحتمل في المستقبل القريب”.
وهذا الواقع وفقا لآلون هو “يستطيع الفلسطينيون خرق حدود الهدوء الوهمي في الضفة، وذبح اليهود في تل أبيب، وفي شوارع القدس”.
ما لا يقوله هؤلاء الكتاب الصهاينة، هو أن المقاومة في قطاع غزة نجحت بالفعل، في تحقيق السيناريو الذي يخشونه على مدار عام، وهو سيناريو يتكرر اليوم في جنوب لبنان أيضا.
ورغم أنه لا يمكن التكهن بمسار المعركة وتطوره في المرحلة الحالية، إلا أن الحقيقة الثابتة من الناحية التاريخية هي أن الجيوش النظامية لا تخرج ظافرة في حروب استنزاف من هذا النوع، وما تجارب الولايات المتحدة في فيتنام، وفرنسا في الجزائر؛ بل والكيان الصهيوني ذاته في جنوب لبنان من ١٩٧٨، وحتى ٢٠٠٠، عن الذاكرة ببعيد.