ربما تكون المعركة، هي معركة وعي في المقام الأول.. وعي عام مستهدف بالتضليل وإحلال المفاهيم العكسية على نحو يتسارع بجنون.. لا تكلُّ الآلة الإعلامية الغربية و أذنابها في عالمنا العربي المكلوم، من الترويج المحموم لعدم جدوى المقاومة، وأن الاستسلام للعدو أمر لابد منه – قالها أحدهم صراحة دون خجل في برنامج على قناة أمريكية ناطقة بالعربية- الرضوخ والتفريط وإلقاء السلاح ومحبة الأعداء وموالاتهم.. أمور يدعو لها اليوم أناس يبدون من بني جلدتنا، لهم نفس الملامح وذات الهيئة ويتحدثون لغتنا مستخدمين تلك المفردات الداعية إلى القبول التام بالهزيمة النهائية.. بالرغم من أن كثيرا من الوقائع الآنية؛ تؤكد أن لا شيء نهائي، وأن الصراع بأبعاده المتعددة – رغم عدم تكافؤ القوى- لا يمكن الجزم بأنه محسوم.. هذا الخطاب “المتماهي” يلقى -للأسف- صدى لدى البعض بفعل عوامل كثيرة؛ تتعلق بعقود طويلة من التغييب وإهدار القيم المجتمعية الحامية لثقافة الشعب، والدعوة إلى الواقعية في التعامل مع مثل تلك القضايا الحساسة.. حتى أن الخطاب السياسي لبعض الأنظمة العربية، لم يعد يستنكف من استخدام تلك النغمة التي ترى مهادنة العدو والانقياد له؛ بل ومساعدته علنا في تنفيذ ما يرمي إليه.. من طبيعة الأشياء. في مرحلة تاريخية يُسفر الغرب فيها عن وجه لا أخلاقي إجرامي لا يتكلف التبرير لقتل الأطفال والنساء وقصف المشافي ومخيمات النازحين؛ بل يُعلن أن هذه الأفعال اللاإنسانية مقبولة لديه تماما؛ إذا كان الهدف منها الحفاظ على أمن وسلامة الكيان المؤقت -راجع تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية الأخيرة- في المقابل تتبنى بعض المنابر الإعلامية الناطقة بالعربية؛ مبدأ غريبا ينطلق من وجهة النظر القائلة بأن الجنون الغربي والتوحش الصهيوني غير المسبوق؛ لابد أن يُقابل من جانبنا بشيء من الحكمة والتعقل والتروي والأناة؛ حتى لا تندفع الأوضاع كلها إلى المواجهة الشاملة، التي من الممكن أن تتطور إلى حرب نووية تفني الكوكب التعيس. وهذا المنطق الذي ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، يلقى قبولا لدى البعض ممن ينزعون إلى التهدئة والرضا بالفتات من حياة هي دون الحياة بكثير.
ذلك العمل الدءوب المتواصل، يظن القائمون عليه أنه حقق قدرا من النجاح، وأن تلك الرؤى “الانهزامية” التي يروجون لها – صار لها جمهور في أقطارنا العربية؛ بل يرى هؤلاء أنهم قطعوا شوطا كبيرا، في اتجاه محو الذاكرة العربية؛ والتكريس لتلك “السردية” التي يحشون بها العقول؛ لكن ذلك كله ينهار ركاما بائسا، ويتحول إلى كومة من التُّرهات؛ مع حدث بحجم استشهاد القائد البطل يحيى السنوار الذي قضى أمس “مقبلا غير مدبر” قابضا على سلاحه مواجها العدو، حاسرا فوق الأرض المباركة، وليس في نفق من أنفاق القطاع، كما كان يَدَّعِي إعلام العدو وبعض المنكفئين في وسائل إعلام عربية ناطقة بالعبرية!
الحدث -بجلاله وقيمته ومدلولاته المتعددة- يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وهو بمثابة استفتاء على القيادة وتأييد النهج المقاوم في وطننا العربي.. الذي نرى شعوبه اليوم- رغم الظروف بالغة القسوة والتعقيد- على قلب رجل واحد في نصرة المقاومة، وفي الإيمان بجدواها وفاعليتها في مواجهة صلف العدو ووحشيته، والتي تكشف عن سوء وضعه وخيبته وإدراكه أنها معركته الأخيرة، مع معرفته التامة أنها معركة تتأبى على الحسم، وأن خوض معركة بتلك المواصفات، خيار خاسر لا يمكن أن يكتب له فيه الانتصار.. فالشعوب المقاومة المؤمنة بحقها، لا يمكن كسرها على هذا النحو أبدا.
بالأمس اغتال العدو أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله وعدد من قادة الحزب.. ولم يكتف العدو بالقصف المتواصل لمواقع المقاومة في الجنوب؛ بل أقدم كعادته -بغباء منقطع النظير- على التقدم البري، وهو ما عرّضه لخسائر كبيرة في الجنود والمعدات حسب مصادر موثوقة.. لقد ظن العدو الصهيوني أن اغتيال قادة الحزب، سَيَفُتُّ في عضد المقاومة؛ لكنه فوجئ بشراسة قوات الرضوان في القتال، على نحو ربما لم يعرفه من قبل.
لا يعني اغتيال القادة الكبار في صفوف المقاومة الفلسطينية أبدا.. انهيارها أو احتمال تراجعها عن أهدافها.. تخبرنا كثير من الوقائع أن المقاومة -بفعل عوامل عديدة- تصبح أكثر قوة وأثبت قدما، وهو ما يحاول الأعداء التعامي عنه.. ظنا منهم أن حساباتهم للقوة تنطبق على هؤلاء الرجال الذين عز مثيلهم.
دون مبالغة ولا جنوح إلى العاطفة الجياشة، بكل مشاعر الأسى على فقد قائد عظيم بقامة السنوار.. نرى في استشهاده البطولي وجها آخر للنصر، وصورة من صور السمو الإنساني التي ستمنح القضية روحا جديدة ومددا كبيرا وقوة أمضى على طريق النصر المعزز.. وما هو على الله ببعيد.