في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، في آيات التنزيل الحكيم، أنهينا حديثنا السابق بأن ثمة تدرج في “ٱلشَّهَٰدَةِ”، وأن هناك تدرج في اتساع الدوائر حول مركز معين، وهو هنا الرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه “شاهدا مركزيا”، ثم دوائر الشهود من حوله: الأمة والأمم والناس؛ بما يُمثل تسلسلا تدريجيا لـ”مراتب الشاهد”، و”مراتب الشهود” في آن.
وقد أكدنا أن الشاهد والشهيد، كل منهما اسم مفرد؛ وإن كانا يختلفان في الاشتقاق، إلا أنهما من أصل لساني واحد، هو فعل “شهد”. ومن منظور فعل القيام بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يتضح أن هناك اختلاف بين الشاهد والشهيد؛ وهو الاختلاف الذي يتضح من خلال آيات التنزيل الحكيم.
بالنسبة إلى الشهيد، ذكرنا أنه عبر آية “الدَّين”، نجد قوله سبحانه وتعالى: “وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ”، بما يؤكد أن “شَهِيدٞ” الحدث، أو في حالتنا هذه شهيد الدَّين، هو من حضر الواقعة؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.
ولعل هذا ما يتأكد، إذا لاحظنا قوله سبحانه: “فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا” [النساء: 41] إذ إن الشهيد هنا، لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها. وهي الدلالة التي تتبدى بشكل أكثر وضوحا، في قوله تعالى: “مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [المائدة: 117].
أما بالنسبة إلى الشاهد، فإن لنا أن نتأمل قوله سبحانه: “قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٭ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ٭ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ” [يوسف: 26-28].
هنا، يبدو بوضوح أن “شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ” لم يكن حاضرًا الواقعة، بين نبي الله يوسف عليه السلام، وامرأة العزيز، لأن تلك الواقعة كانت وراء الأبواب المُغلقة، بدليل قوله تعالى: “وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ…” [يوسف: 23]. وبالتالي، فقد كانت شهادة “شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ” هي شهادة “شخص” لم يشهد حضوريا رأي العين، بالسمع والبصر، ما حدث.
وهكذا، فإن الشاهد هو “من يدلي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يدلي بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث. ومن هنا نُدرك، أن شهادة الشهيد أقوى من شهادة الشاهد؛ من حيث إن الأخير يعتمد على “الخبرة المعرفية”، في حين يستند الأول إلى “المُشاهدة العينية”.
لكن، لماذا نُعيد تعريف الشاهد والشهيد، رغم أننا ذكرنا هذه التعريفات في أحاديث سابقة؟
الجواب على التساؤل السابق، يعتمد على صيغة الجمع لكل من شاهد وشهيد كما وردت في التنزيل الحكيم؛ إذ، يُجمع الشاهد على شاهدين وشهود، أما الشهيد فيُجمع على شهداء وشهود؛ بما يعني أن ورود مصطلح “شهود” يؤشر إلى جمع شاهد وجمع شهيد معا، أي ـ وهذا جدير بالتأمل والانتباه ـ يؤشر إلى الحالتين معا، أي أن يكون من يقوم بالشهادة، هو “شاهد” و”شهيد” في الوقت نفسه.
بعبارة أخرى، يأتي مصطلح “شهود” ليدل على أن هؤلاء الشهود، هم في موضع “الشهادة الحضورية والمعرفية معا”؛ بما يؤكد أن مصطلح “شهود” في التنزيل الحكيم، هو مصطلح خاص أو له “وضعية خاصة”.
وقد ورد هذا المصطلح في مرات “ثلاث” في آيات القرءان الكريم.. يقول سبحانه وتعالى: “وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالٗا مَّمۡدُودٗا ٭ وَبَنِينَ شُهُودٗا” [المدثر: 12-13]. إذ، إن “شُهُودٗا” تدل على حالتي الشاهدين والشهداء في الوقت نفسه؛ سواء كان هؤلاء الـ”بَنِينَ” من الأولاد كما يقول كثير من المفسرين، أو كانوا من “الأبنية” كما يقول المفكر السوري محمد شحرور.
وتتضح الدلالة نفسها في قوله سبحانه: “قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ ٭ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ ٭ إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ ٭ وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ” [البروج: 4-7]. ولنا أن نُلاحظ، هنا، أن “أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ” هم من “الشهداء” لأنهم كانوا يجلسون حول النار التي يُعذبون بها المؤمنين، فكان كل واحد منهم “شهيدًا” على ذلك؛ وفي الوقت نفسه، كانوا من “الشاهدين” لأنهم هم من أعدوا الأخدود ووضعوا فيه النار التي عُذّب بها المؤمنون، فكان كل واحد منهم “شاهدا” على ذلك.
هذا، يعني في ما يعنيه أن مصطلح “شهود” يأتي للدلالة على المعرفة الحضورية والمعرفية معا؛ ولعل ذلك ما يتأكد من خلال الموضع “الثالث” الذي ورد فيه مصطلح “شهود” في التنزيل الحكيم. يقول تعالى: “وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ” [يونس: 61].
وكما يبدو، من السياق القرءاني في الآية الكريمة، فالخطاب هنا حول “كِتَٰبٖ مُّبِينٍ”، يدون فيه كل تفاصيل الأحداث التي تحدث في الطبيعة وفي التاريخ الإنساني، أيًا كان “شَأۡنٖ” كل منها، سواء كان تلاوة “قُرۡءَانٖ” أو “عَمَل” إنساني؛ وعلى وجه العموم، أيًا كان هذا الحدث، وأيًا كان حجمه، فهو مُسجل في هذا “الكتاب المبين”، بدليل قوله عزَّ من قائل: “وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ”.
وبالتالي، فإن مصطلح “شُهُود” يرد في هذا الموضع للدلالة على أن الله سبحانه وتعالى “شهيد” لهذه الأحداث (دون تجسيد)، و”شاهد” عليها في الوقت نفسه.
وبالتالي أيضا، فإذا كان الله تبارك وتعالى هو “الشاهد” المُطلق، وكان “الشهيد” من أسمائه الحُسنى؛ فإن ما توضحه الآيات البينات، في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [المجادلة: 7]؛ وفي قوله تعالى: “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ” [الحديد: 4]؛ هو مضمون “الشهيد”.. ومن هنا، نعرف دلالات أسماء الله الحُسنى “عَلِيمٌ.. بَصِيرٞ”، التي تتكامل مع اسمه سبحانه “الشهيد”.
وللحديث بقية.