على الرغم من مُضي أكثر من عشرين عاما، فلم يزل الواقع الذي فرض كتابة هذا الكتاب قائما، وهي ذي طبعته الثانية أضبط تنقيحا، وأوفى بموضوعها دون إفراط “نسوي” أو تفريط إنساني.
هذا ما يقوله د. محمد فكري الجزار في مقدمة الطبعة الثانية، المزيدة والمنقحة، لكتابه “معجم الوأد..النزعة الذكورية في المجتمع العربي” الصادر عن مجموعة بيت الحكمة للثقافة ضمن سلسلة أفق التي تتبنى نشر الكتابات الفكرية والنقدية، مفتتحا كتابه هذا، الذي يقدم فيه تحليلا للخطاب المعجمي، بمقولة فاطمة المرنيسي “إن الكلمات إذا كانت، على العموم، خطرة، فإن كلمة “حريم” مخزن للمتفجرات” مشيرا إلى أن موضوع هذا الكتاب هو المرأة وحريتها، هي وقسيمها في الإنسانية الرجل، هادفا إلى بناء شخصية عربية غير فصامية، وبالتالي بناء مجتمع سوي لا يعرف التمييز الاجتماعي والحقوقي بين أفراده نساءً ورجالا، دون سقوط في تسوية فجة، ودون أن يهتم بالصراعات التي يعيشها الغرب، ولم يقف في وجه قبحها خُلق ولا دين ولا حتى فطرة، بل أعيدت فلسفة الأخلاق لحسابها وصدّق على انحرافاتها رجال الدين عندهم.
فكري الجزار الذي زاد وعدّل في هذه الطبعة؛ ليُعرِّي المعجم العربي تعرية نهائية، إذ إن المرأة لم تحظَ بمنزلة تكاد تعلو منزلة الرجل في دين كما حظيت به في الإسلام، يكتب هنا قائلا: إن انهيار التكافؤ الوجودي بين الرجل والمرأة، وما يستتبع ذلك من عدم تكافؤ اجتماعي وحقوقي، يعني خللا في رؤية العالم، التي يمتلكها هذا المجتمع، سواء رؤيته للعالم أو رؤيته لنفسه، بل يؤدي هذا الانهيار إلى إفراز علاقات عنف اجتماعي، لا ينحصر فعلها بين الرجل والمرأة فقط، إنما يمتد ليمنح السلطة السياسية مسوغات العنف بالاثنين، مؤكدا أن علاقة العنف بين أي طرفين لا تهدر إنسانية “المعنوف” به فقط، وإنما إنسانية الطرفين معا.
رمزية ذكورية
متحدثا عن المعجم العربي يقول الجزار إنه يعتمد، في إخفاء خطابه الذكوري، على تسليم الكلمة إلى أخرى، وتسليم الأخرى إلى ثالثة، حيث لا تفتأ العقلية الذكورية تنزع منازعها عائدة إلى مرتكزاتها، حتى في أكثر الكلمات تسوية بين الخلق وعدم التمييز بينهم، مشيرا إلى أن المعجم الـ “فوق جنسي”، في اللغة العربية، يقوم شاهدا على رمزية ذكورية يكتظ بها فضاؤه، إلى الحد الذي ينطوي معه وصفه له بأنه فوق جنسي على مفارقة مريرة بين دلالة الصفة ومحمولات الموصوف، التي بلغت درجة إلغاء كينونة المرأة ما لم تلحق برجل تصبح امرأته لتستمد من كينونته ما يسند وجودها الوظيفي أو الشيئي، ذاكرا أن هذا المعجم قد اهتم بفاعلية الصيغة المُذكّرة في توجيه دلالة مفرداته.
كذلك يقول الكاتب إن الذكورة والأنوثة خصائص بيولوجية ووظيفية لا تميز الرجل من المرأة فحسب، بل تقيم التمييز نفسه بين كافة الكائنات الحية، وإذا كان التاريخ قد استولى على صناعته الرجل؛ فإن هذا لا يعني أن خصوصيته البيولوجية هي الفاعلة الثقافية، أو حافزة الفعل الثقافي، ذاكرا أن الدور الثقافي للرجل، قام على صدفة تاريخية، بينما ظلت المرأة في طور الاستعداد، الذي تؤكده الكفاءة الإنسانية لممارسة ذلك الدور، لافتا النظر إلى أنه ليس من شأن العمل المعجمي أن يدخل في شيء من التفلسف اللغوي، حول بعض ظاهرات اللغة، وليس من شأنه أن يزيف علينا هذه الظاهرات، ذاكرا أن التمييز الجنسي بين الرجل والمرأة، يمتلك في المعجم العربي بنية مفاهيمية شديدة التماسك والانسجام.. والانغلاق بالطبع، ومن ثم فقد مهّد لقناع بداهته المزعومة بتأسيس تمييزاته الجنسية في مستوى قبلي، مُشيرا إلى أنه من دواعي الأمل، أن تاريخ الإنسانية لم يفتتح الرجل صناعته، مؤكدا أن خطورة التمركز حول مبدأ أو مفهوم لا تنحصر نتائجه في الجانب المعرفي، وأن العنف الرمزي هو أخطر صور العنف وأشدها فعالية وأكثرها خفاءً، وذلك نظرا إلى تغلغل الرمز في حياة الإنسان، وعلى كافة أصعدتها الظاهر منها والباطن، حتى ليبدو أن الإنسان وحده هو هذا الكائن التعيس الذي يقضي عمره كله مقتنصا، داخل شبكة معقدة من الرموز التي تتداوله كما يتداولها، وتعيد إنتاجه بقدر ما ينتجها.
توصيات
هنا أيضا يقول الجزار إذا كان الخطاب المتطرف قد شاع بين المسلمين، فخطاب المعجم “البدوي” عن المرأة أكثر شيوعا، وأكثر خفاءً في الوقت نفسه، وخطورته أنه كان يمد خطاب التطرف الديني خفية بتصوراته البدوية، مشيرا إلى أن الحفر في المعجم العربي ضرورة لقضية المرأة، وإن لم يكن في أيدينا بديل من كلماته، فعلى الأقل نستخدمها ونحن واعون بما يستكن تحت ظاهرها مما يناقض تصوراتنا، فكلمات المعجم ليست بريئة مطلقا، وتدل بأكثر مما نريده منها، وبعد رحلته هذه في المعجم العربي التي أراد من خلالها أن يجري عملية حفر أركيولوجي في تصوراتنا نحن عن ذاتنا ذكورا وإناثا، دون أن ينتقد خطاب المعجم الثقافي، بل أراد أن يكتشف المسكوت عنه، المقموع الذي تحمله وحدات هذا الخطاب، ساعيا فقط لوضع المعجم في وظيفته عبر تحليل خطابه لنتبين القدر الفادح من الخطر الذي يحاصرنا عربًا ومسلمين ويهدد وجودنا في المستقبل، موصيا -في الأخير- بالتوقف عن إسباغ القداسة على لغتنا العربية، خاصة وهي ليست أكثر من منظومة رمزية أبدعناها ونبدعها وسنواصل إبداعها على مدى متغيرات حياتنا من اجتماع ومعرفة وحضارة، كما يوصي بالكف عن الإعلاء غير الموضوعي للعربية والبدوية في المعاجم القديمة، ووضع هذه العربية داخل شروطها الزمكانية والثقافية والمعرفية، وكذلك الشطب -بقوة وقسوة- على التأويلات التي يعج بها المعجم العربي، داعيا إلى إعادة النظر في أبواب ومواد المعجم العربي، وما يقع تحتها من دلالات معجمية، وتخليص الخطاب المعجمي من التصورات التي تخص مراحل تاريخية أو حضارية ماضية، هادفا من وراء كل ذلك إلى أن يختفي الوأد، بكل أشكاله وصوره، من حياتنا الاجتماعية والثقافية والإنسانية على حد سواء.