رؤى

الصين: التحقيق مع وزراء الدفاع.. للأمر أكثر من تفسير!

شهدت الصين في السنوات الأخيرة سلسلة من التحقيقات الصادمة، التي استهدفت كبار المسئولين العسكريين، وبرزت في مقدمتها التحقيقات مع وزراء الدفاع، ما أثار تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذه الحملات. أحدث هذه القضايا كانت تقديم وزير الدفاع الصيني الأدميرال دونغ جون، للتحقيق في فضيحة فساد جديدة تضرب جيش التحرير الشعبي، ليصبح “ثالث” وزير دفاع صيني، يخضع للتحقيق في غضون فترة قصيرة.

وقد أشارت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في 27 نوفمبر 2024، إلى أن الجنرال لي شانغفو، سلف دونغ جون، الذي أُطيحَ به بعد “سبعة” أشهر فقط من توليه المنصب، قد خلف وي فنغ هي، الذي وضع قيد التحقيق بتهمة الفساد بعد تقاعده من المنصب.

وتعد قضية التحقيق مع وزراء الدفاع الصيني جزءًا من جهود أوسع تقودها القيادة الصينية، تحت إدارة الرئيس شي جين بينغ، لمكافحة الفساد في المؤسسات الحكومية والعسكرية.

ولكن.. لماذا توجّه القيادة الصينية سهامها نحو كبار المسئولين العسكريين؟ وما الدوافع التي تقف وراء هذه الحملة؟

(1) تعزيز سيطرة الحزب الشيوعي على الجيش: إذ يعتبر جيش التحرير الشعبي الصيني (PLA)، من أهم أعمدة القوة في الصين؛ فهو لا يمثل مجرد مؤسسة عسكرية، بل يُعتبر أداة سياسية أساسية في يد الحزب الشيوعي. ومنذ وصول الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة عام 2012، أطلق حملة واسعة لمكافحة الفساد، ليس فقط داخل الحزب؛ بل أيضا في الجيش، وذلك لتعزيز سيطرته على القوات المسلحة وضمان ولائها الكامل للقيادة المركزية للحزب.

ومن ثم، فإن إحدى الدوافع الرئيسة للتحقيق مع وزراء الدفاع، هي رغبة شي في تأكيد سيطرته المطلقة على الجيش، وتطهير المؤسسة العسكرية من أي عناصر قد تشكل تهديدا على وحدة الحزب الشيوعي، أو تحديا لسلطته.

(2) مكافحة الفساد في المؤسسة العسكرية:

لطالما كانت قضايا الفساد مشكلة متجذرة في الجيش الصيني؛ وقد اعترف الرئيس شي جين بينغ نفسه بأن الفساد يشكل تهديدا كبيرا للأمن القومي. في السابق، كانت المؤسسة العسكرية الصينية تعمل بشكل مستقل، إلى حد كبير، وبعيدا عن الأنظار العامة، ما سمح لبعض كبار الضباط والمسئولين باستغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية، من خلال التعاملات غير المشروعة، مثل الرشاوى وصفقات الأسلحة والتعاقدات الحكومية.

ويشير التحقيق مع الأدميرال دونغ جون وزملائه السابقين، إلى أن القيادة الصينية تأخذ هذه المشكلة بجدية. ومن خلال التحقيق مع وزراء الدفاع، تُرسل القيادة الصينية رسالة واضحة بأن لا أحد فوق القانون، حتى في المؤسسة العسكرية التي كانت تُعتبر لفترة طويلة محصنة نسبيا.

(3) ضمان استعداد الجيش لمواجهة التحديات:

فالصين تسعى إلى بناء جيش حديث وقوي، يكون قادرا على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، سواء داخليا أو خارجيا. وبالتالي، فإن الحفاظ على سمعة “جيش التحرير الشعبي”، أمام الشعب الصيني وأمام العالم، يُعدُّ من الأولويات القصوى للقيادة الصينية؛ إذ إن أي تقارير عن فساد على مستوى القيادات العليا، قد تؤدي إلى تقويض ثقة الشعب في الجيش وتشويه صورته على الساحة الدولية.

أضف إلى ذلك، أن الصين تواجه تحديات أمنية واستراتيجية متزايدة على المستوى الدولي، بما في ذلك التوترات مع الولايات المتحدة، بشأن تايوان وبحر الصين الجنوبي؛ فضلا عن المنافسة العسكرية والاقتصادية المتصاعدة في آسيا. ولضمان جاهزية الجيش لمواجهة هذه التحديات، تحتاج القيادة الصينية إلى مؤسسة عسكرية قوية وفعالة وخالية من الفساد.

(4) هيكلة الجيش وضبط مسار التحديث العسكري:

إذ تشير التحقيقات مع كبار المسئولين العسكريين، بما في ذلك وزراء الدفاع، إلى أن القيادة الصينية قد تكون بصدد إعادة هيكلة الجيش وضبط مسار التحديث العسكري؛ حيث يهدف الرئيس شي جين بينغ إلى تحويل جيش التحرير الشعبي إلى قوة حديثة ومتقدمة تكنولوجيًا، قادرة على الدفاع عن مصالح الصين في القرن الحادي والعشرين.

وهو ما يعني أن التحقيق مع وزراء الدفاع يمكن أن يكون جزءا من جهود القيادة، لضمان أن عملية التحديث العسكري تسير بسلاسة ودون عوائق ناتجة عن الفساد أو الإدارة السيئة.

(5) ترسيخ سلطة الرئيس الصيني “شي”:

فمنذ توليه السلطة، عزّز الرئيس شي جين بينغ قبضته على جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش، حيث أجرى تغييرات كبيرة في القيادة العسكرية، وأطلق حملة “مكافحة الفساد” التي شملت مسئولين بارزين في الحزب والجيش. التحقيق مع وزراء الدفاع يمكن أن يُفسر بوصفه جزءا من استراتيجية أوسع للرئيس شي لتقوية نفوذه داخل المؤسسة العسكرية، وإزالة أي عناصر قد تُشكل تهديدا مستقبليا لحكمه.

باعتبار الجيش مؤسسة حساسة ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة الداخلية، فإن التحقيقات مع كبار المسئولين فيه قد تكون أيضا جزءا من الحسابات السياسية الداخلية؛ بل وقد يسعى الرئيس شي إلى توجيه رسائل سياسية داخلية من خلال هذه التحقيقات، مفادها أنه قادر على التصدي للفساد، والحفاظ على وحدة الجيش تحت سيطرة الحزب الشيوعي، وأنه لن يتردد في استبعاد أي مسئول لا يتماشى مع سياساته.

وهكذا..

تشكل التحقيقات مع وزراء الدفاع في الصين جزءا من حملة أوسع تهدف إلى تعزيز سيطرة الحزب الشيوعي على الجيش، ومكافحة الفساد المتجذر في المؤسسات العسكرية؛ كما أنها تعكس رغبة القيادة الصينية في تحسين كفاءة الجيش وضمان جاهزيته لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ومع أن هذه التحقيقات قد تبدو للوهلة الأولى جزءا من جهود مكافحة الفساد، إلا أنها ترتبط بشكل وثيق بالحسابات السياسية الداخلية، وطموحات الرئيس شي جين بينغ في تعزيز قبضته على الجيش والسلطة بشكل عام.

وبالرغم من أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية وو تشيان، قد نفى في مؤتمر صحفي الخميس 28 نوفمبر 2024، أن يكون هناك تحقيق مع وزير الدفاع الصيني.. إلا أن التحقيق مع وزيري الدفاع السابقين، اللذين سبقا وزير الدفاع الحالي الأدميرال دونغ جون، يُشير إلى احتمال أن يكون تقرير صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، يحمل جزءا من الصحة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock