رؤى

أحلام محبٍّ للغة العربية.. في يومها العالمي!

تُرى.. أَوَهْمٌ هو، أمْ هي أضغاثُ أحلامٍ، أنْ يحْلمَ أحدنا بأنْ تصبح اللغةُ العربيةُ ذات حينٍ هي اللغة الأولى عالميًّا، مُتخطيةً لغاتٍ شتى على رأسها الإنجليزية والفرنسية؟ وهلْ هو حلمٌ بعيدُ المنال أنْ نحلم بأنْ تستعيد اللغةُ العربيةُ مكانها ومكانتها؟

وهل من الواقع، أوالواقعية، أنْ نستسلم للأمر الواقع ونقبل، أو نرضى، بما وصل إليه حالها في أيامنا هذه؟ ولنتساءل: ماذا لوْ لمْ يكن القرآن الكريم قد نزل بلسانها؟ هل كانت ستصمد أمام كل ما تتعرض له من هجماتٍ وضرباتٍ في الصميم؟ أمْ تُراها كانت ستروحُ ضحيةً للتجاهل والنسيان؟

(1)

وإضافةً إلى الأسئلة / التساؤلات آنفة الذكر، يطل علينا سؤالٌ هو في غاية الأهمية وهو: هل يقتصر الدفاع عن اللغة العربية أو نشرها والحفاظ عليها على مَنْ تخصصوا فيها فقط أو مَنْ قاموا بدراستها في كلياتٍ ومعاهدَ تخصصت في تدريس اللغة العربية وعلومها؟ أم أنَّ هذا هو واجبُ كلِّ عربي، كلٌ على قدر استطاعته وفي مجاله؟

أنا مثلا وعلى الرغم من أنني أُدَرّس اللغة الفرنسية في المرحلة الثانوية، إلا أنني وفي الحصة الأولى من كل عام دراسي جديد أقول لتلاميذي: مَنْ لا يستطيعُ إتقانَ لغته الأم؛ لنْ يتمكن مِن إتقانِ أيّة لغةٍ أخرى. حَاضًّا إياهم ومُحَفِّزًا لهم،على الاهتمام باللغة العربية التي وجدْتني منذ صغري أكثر من عاشقٍ لها، وهذا لأسبابٍ شتى منها حُبِّي للمدرسين الذين كانوا يُدرّسونها لي في المرحلتين الابتدائية والإعدادية؛ خاصةً وقد كانوا يُشجعونني ويثنون على تفوقي فيها، وكذلك اهتمامهم بي؛ حتى أنه لم يكن هناك أحد يقرأ دروس القراءة في الفصل سواي.

ويأتي، قبل هؤلاء المدرسين الذين لا أزال أَدينُ لهم بهذا الفضل، القرآنُ الكريمُ الذي كنتُ أواظب على قراءته بشكل منتظم وإليه يرجع الفضل الأول في استقامة لساني وقلمي.

غير أني أجد أن بعض مَنْ يَدْرسون في مدارس اللغات التي تُدرِّس اللغات الأجنبية -سواء كانت الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها- بدءًا من مرحلة رياض الأطفال، يتخرجون وهم يتقنون تلك اللغات في الوقت الذي لا يعرفون أي شيء عن لغتهم الأصلية التي يعجز الواحد منهم عن صياغة جملة سليمة نحويّا وإملائيّا بها.

وعلى الرغم من أنَّ هذا ما يُصيب بالحسرة، على واقع اللغة العربية، إلا أنَّ هؤلاء -هم وأولياء أمورهم- يتباهون بمدارس اللغات هذه؛ متذرعين بأن المستقبل يفتح ذراعيه أمام المتفوهين باللغات الأجنبية، وليس باللغة العربية التي لو استطاعوا لقاموا بإلغائها من الوجود.

لكن كم مدرس ممن يُدرِّسون اللغات الأخرى -غير العربية- يحض تلاميذه على الاهتمام باللغة العربية؟ بل فلنقل كم مدرس للغة العربية يدعو تلاميذه إلى دراستها كلغة حياة، لا كأي مادة أخرى، لا أهمية إلا للنجاح فيها؟ وعلى الرغم من هذا أيضا ما زلتُ مُصرّا على أن أبدأ العام الدراسي الجديد بقولي لتلاميذي: مَنْ لا يستطيع إتقان لغته الأم؛ لن يتمكن من إتقان أية لغة أخرى، وسوف أظل على حالي هذه حتى نهاية آخر يوم في عمري، وإن كان هناك مَنْ يراني مُخطئا أو حتى واهما.

اللغة العربية

(2)

كثيرون مَنْ يدعون إلى الاهتمام بنشر اللغة العربية، على مستوى عالمي.. وهذا جميل للغاية، لكني أرى أنَّ هذا لن يحدث؛ إلا إذا كان ثمة اهتمام واسع المدى باللغة العربية في الداخل، بغية إعداد كوادر موهوبة، تمتلك الكفاءة والقدرة على نشر اللغة العربية.. هنا وهناك كما ينبغي.

غير أن الملاحظ.. هو أن إعداد تلك الكوادر، أمر صعب -كما أرى- في ظل عدم وجود اهتمام سواء من معظم المؤسسات المنوط بها القيام بهذا الدور أو من الأفراد. ومن يقرأ واقع لغتنا الجميلة يجد ما يهوله ويفزعه.

(3)

إذن.. تُرى كيف ننهض بلغتنا أو حتى على الأقل نُعيد إليها مكانتها التي سُلِبتْ منها على أيدي أحفادٍ لولا لَوْنُ بَشْرتهم لَظَنَّهم الرائي ليسوا بعربٍ؟!

بدايةً لا بد من الاعتناء علميا وسلوكيّا بشخص المُعلِّم الذي يدرِّس اللغة العربية في المراحل التعليمية المختلفة، فمثلا لا بد وأن يكون لدى المعلم وجه بشوش، وألا يكون مُتجهما حتى لا يُنَفِّر التلاميذ منه ومن مادته، أذكر أنه كان أحد مُدرِّسي اللغة العربية في مدرستي، وأنا في الصف الثالث الإعدادي، عندما يدخل الفصل ترتعد فرائص التلاميذ حدَّ؛ كما تصطك الأسنان خوفًا منه ومن بطش عقابه. فكيف يُحبُّ اللغةَ العربيةَ مَنْ يكونُ مُدَرّسُهمْ بهذه السِّمات؟

أَلا يقدرمعلمٌ يمتلكُ هذي الصفات على جَعْلِ طلابه يلعنون اللغة ومَنْ يُدَرِّسُها؟ لا سيما وأن هؤلاء قد أَلْقى بهم حظهم العاثر خطأً في طريق التدريس.. أيْ قل أصبحوا مُدرسين بالمصادفة المحضة. أو فلنقل -إذا أردنا الدقة- إن السبب هو مجموع درجات الشهادة الثانوية.

وهناك سؤالٌ أكثر من مهم، في ما يتعلق بالكليات المتخصصة في تدريس مناهج اللغة العربية وعلومها وإعداد مدرسيها وهو: لماذا تعتمد هذه الكليات، في قبولها لطلابها، على مجموع هؤلاء الطلاب في المرحلة ما قبل الجامعية فقط؟ ولماذا لا يكون هناك امتحان لقدرات هؤلاء في ما يخص اللغة العربية؟ ما أعنيه هو.. ما فائدة طالب حصل على مجموع 100% في المرحلة الثانوية وهو لا يُجيد كتابة جملة واحدة بشكل نحوي وإملائي صحيح، وكذلك لا يُحْسنُ

قراءتها كما يجب؟

وعن تجربةٍ قابلتُ -في أماكن كثيرة- أشخاصا حصلوا على شهاداتهم الجامعية من كبرى الكليات المتخصصة في تدريس علوم اللغة العربية في الوطن العربي؛ غير أنهم لا يُحسنون الحديث بها، وإذا ما تحدثوا بها فلا أُحدّثك عن كَمِّ الأخطاء التي يرتكبونها.. حتى أني أذكر أن أحدهم ظل يتحدث لفترة طويلة دون أن أسمع منه جملة واحدة صحيحة، ناهيك عن عددٍ لا بأس به من دكاترة الجامعة الذين لا يعرف لسانهم ماذا تَعْني اللغة العربية السليمة. ثم ما دور أساتذة الجامعة في هذا الشأن؟ وليُسمح لي بهذا التساؤل البريء: ما نوع الخدمة التي سوف يقدمها  أستاذ جامعي نال درجته العلمية، إما سرقةً من مجهودات غيره، وإما بدفع النقود لمانحيه إياها، وإما بالاستعانة بآخرين يُعدّون له رسالة جامعية “ما تخرش المَيَّة”.. كما يقال؟

(4)

كذلك ما دورُ الإعلاميِّ، سواء أَعَمِلَ بالصحافة أو عمل في الإذاعة أو في التليفزيون، الذي عُيِّن في مكانه لا بكفاءته ولا بموهبته وإنما بوساطة قريب؟ إننا نقرأ لكُتَّاب تحتوي مقالاتهم وكتبهم على كَمٍّ مُفْزعٍ من الأخطاء اللغوية التى ربما لا يخطئ فيها تلميذ في الصف الأول الابتدائي في مدرسة تهتم بالفعل بتدريس اللغة العربية. وبالمثل نستمع ونرى مذيعين تكره اللغةُ العربيةُ التي يتحدثونها مذ نطقوا. فهل يُنتظر من هؤلاء أن يخدموا اللغة أم أنهم يعملون -بقصد قبيح- على تدنّي مستواها وانحطاطها وفقدانها لبريقها ولمكانتها اللائقة بها؟ إننا إذا كنا نريد -بصدق- أن نُعيد اللغة العربية إلى سابق عهدها الذهبي فعلى مَنْ بأيديهم مقاليد الأمور أن يُعيدوا قراءة المشهد التعليمي والإعلامي في دولنا العربية دون استثناء، وإلا ما فائدة عشرات المقالات التي تتناول هذه  المسألة؟!

(5)

لا أدّعي فخرا أو بطولةً ما، حين أقول أن ابنتي “رؤى” قبل أن تبلغ السادسة من عمرها كانت تتحدث اللغة العربية بطلاقةٍ لمْ أَعْهدْها في كثيرين يُحيطون بي، سواء أكانوا في مجال التدريس أو في مجال الكتابة والتأليف.

لم تكن رؤى تذهب وقتها لا إلى مدرسة ولا إلى حَضَانَةٍ، لكنها كانت تشاهد بانتباه شديد برامج الأطفال التي تبثها بعض قنوات الأطفال الناطقة باللغة العربية الفصحى.

إذن ثمة مَنْ -وما أيضا- يجعل الأطفال يُحبون لغتهم الأم منذ الصغر ويساعدهم بشكل لطيف في استخدامها كتابةً وقراءةً بطريقة لا تُزاحمها فيها الأخطاء.

هذا ما يحدث في قنوات الصغار، أما ما يحدث على شاشات بعض قنوات الكبار – بل معظمها- من أخطاء على ألسنة مُذيعي ومُقدمي برامجها؛ فكارثةٌ إن لم يكن فضيحةً مُدويةً بمعنى الكلمة لهؤلاء ولبرامجهم ولقنواتهم. ولقد استمعتُ بأذنيّ هاتين إلى مُذيع في قناةٍ تخصصتْ في الثقافة وهو لا يعرف أن الياء علامة نصب وجر المثنى، واستمعتُ إلى مذيعة أخرى لم تنجح في قراءة “عضو اتحاد الكُتَّاب” دونما تشكيل، بشكل صحيح إذ قرأته: “عضو اتحاد الكِتَاب!” هذا ولا نَنْسَ عددًا ممن يمارسون الكتابة الأدبية والإبداعية ويحتاجون إلى من يصحح أخطاءهم؛ بحجة أنهم ليسوا متخصصين في اللغة العربية! ومن حقي هنا ألا أمنع نفسي من أن أسأل هؤلاء: ما دمتم لستم متخصصين في اللغة العربية، فلماذا تقتربون منها وتكتبون بها؟ ألستم بهذا فاقدين لأبجدية الكتابة؟ وهل يقبل هؤلاء أن يُصْلحَ لهم كهربائيٌّ صنبورَ المياه، أو أن يقود سياراتهم مَنْ لا يحمل رخصة قيادة؟ وهذا هو بيت القصيد، كما يُقال، فالأمة التي تعمل على انتشار لغتها في العالم أجمع كالإنجليز والفرنسيس، لا بد وأنها تعرف -بل تدرك تماما- حقيقةَ

 قيمةِ لغتها وتراثها الحضاري وإرثها الثقافي.

أما الأمم التي ترزح تحت نَيِّر التخلف والتقهقر؛ فأمم ليس لديها أية قيمة من الأساس ولا يسعى أفرادها لا إلى نشر لغتهم ولا إلى الاستفادة من إرثها الثقافي والحضاري إن وُجِدْ.

لكي نأمل إذن في أن يكون ثمة مَنْ يعمل بضمير يقظ، على أن تعتلي لغتنا العربية عرشها وتُتوِّج بتاج الانتشار، لا بد أن تتخلص مجتمعاتنا من سلبيات شتى على المستوى الاجتماعي والثقافي والإنساني.

ولحظتئذٍ يولد الأمل الذي سيكون الخطوة الأولى على طريق استعادة اللغة لمكانتها وانتشارها بالشكل الذي يليق بها. أما إذا بقينا على ما نحن فيه وعليه، فكيف يتولَّد لدينا بصيصُ أملٍ في التغيير، أو حتى التَّغَيُّر بفعل الطفرات أو العوامل الطبيعية الطارئة، إلى الأفضل على مستوى اللغة وما يرتبط بها من حضارة وثقافة وتراث؟

ونظرا إلى أننا لا ينبغي أن نفقد الأمل، أو أن نتنازل أو نتخلى عنه أمام طوفان هجمات اليأس والقنوط التي تجتاحنا من حين إلى حين، فإننا نعلن: إننا في انتظار المؤسسات التي ستحمل عبء هذا الدور على عاتقها. لكننا لن ننتظر مكتوفي الأيدي بل سيفعل كل منا -كلٌّ في موقعه- ما يقدر علي فعله؛ حتى يتحقق الأمل والمراد -إن شاء الله- ويرى أحفادنا – إن لم يُكتب لنا ولأولادنا أن نرى- اللغةَ العربيةَ وهي تتربع فوق عرش العالم، تنال احترام الجميع، وتصبح من أهم لغات العالم فعليًّا إن لم تكن هي بالفعل أهمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock