ما الجدل وما الحوار هل يلتقيان؟ وإن كان.. فما نقاط التلاقي بينهما؟ ثم ما الفارق بينهما؟ والأهم ما دلالة كل من الجدل والحوار في آيات التنزيل الحكيم؟ هذه، وغيرها تساؤلات كُثُر تطرح نفسها، عند الحديث عن كل من الجدل والحوار، خاصة إذا لاحظنا أن معظم من تناول هذه المصطلحات، كان يستند إلى أن كل منهما يتعلق بمسألة “النقاش”، بين شخصين أو أكثر.
إلا أن هناك من المفكرين والباحثين، من خرج بمفهوم الجدل عن مسألة النقاش الكلامي، ليصل به إلى كونه قانونا ضمن القوانين التي تحكم الطبيعة، مثل المنهج “المادي الجدلي” ومنهم من وصل به إلى أن يكون قانونا خاصا بالإنسان، أي قانونا نوعيا يتعلق بالإنسان دون الطبيعة، مثل منهج “جدل الإنسان”؛ ومنهم -أخيرا- من وصل به إلى أن يكون قانونا للمتناقضات سواء في الطبيعة أو داخل الدماغ الإنساني.
ولأننا نعتمد في رؤيتنا على التنزيل الحكيم.. سنحاول -في هذه الدراسة- أن نتلمس كيف تعامل القرءان الكريم مع مصطلحي “الجدل” و”الحوار”؛ وذلك من المنظور الدلالي، أو بالأحرى بناءً على التلاقي بين علم الدلالة القرءانية، وعلم المصطلح القرءاني.
يذكر ابن فارس في كتابه “معجم مقاييس اللغة”، أن “جدل: الجيم والدّال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام”. أما أبو الوليد الباجي، في كتابه “المنهاج في ترتيب الحجاج”، يُعرِّف الجدل بأنه “تردد الكلام بين اثنين قصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه”. أما الجرجاني، فيذكر في “التعريفات”، أن الجدل هو “القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، أو هو دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة”.
وكما يبدو، فإن الجدل، تبعا للتعريفات السابقة، لا يكون إلا بين اثنين متنازعين فأكثر، وهو ما نلاحظه في ما أورده ابن فارس، والباجي، فضلا عن الجرجاني؛ وهو أيضا ما نلاحظه في تعريف أبي البقاء العكبري، في كتابه “الكليات” حيث يُعرِّف الجدل بأنه “عبارة عن دفع المرء خصمه، عن فساد قوله بحجة أو شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره”؛ إذ يمكن ملاحظة كيف يقترب كل من العكبري والجرجاني من بعضهما في تعريف الجدل.
وأيا يكن الأمر، فإن ما يمكن التمسك به من خلال هذه التعريفات وغيرها، أن الجدل هو صراع أو تناقض، بين شيئين. صحيح أن غالبية التعريفات التي تناولت مفهوم الجدل، اعتمدت على استناد هذا المفهوم إلى الاختلاف في المناقشة، ومحاولة كل طرف إثبات صحة رؤيته، أو منهجه؛ إلا أنه من الصحيح أيضا، أن معظمها يتفق على مسألة “التناقض أو الصراع بين شيئين”، شخصين كانا أو فكرتين، أو حتى شيئين ماديين.
وهو ما يعني أن “الجدل” -كمفهوم- ينبني على “الثنائية”.
فهل يختلف الحوار عن الجدل.. في هذا المعنى؟
الحوار ظاهرة إنسانيّة، وهو أسلوبٌ يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في رأيه قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره. و”الحوار” في اللسان العربي، من “حوُر” وهو “الرجوع والتردد بين شيئين”؛ والحَوْر “النقصان بعد الزيادة، لأنه رجوع من حال إلى حال”.
وسوف نبدأ هنا بالبحث في “الحوار القرءاني”، على أن نتبع هذا الجزء، بـ”الجدل القرءاني”.
بداية، لم يرد لفظ “حوار” في القرءان الكريم إلا في مواضع ثلاثة؛ جاءت اثنتان منها في سورة الكهف، وذلك في معرض الحديث عن قصة “صاحب الجنتين” وحواره مع صاحبه الذي لا يملك مالا كثيرا؛ أما الموضع الثالث فقد جاء في سورة المجادلة. إلا أن لفظ “حَوْر” قد ورد في موضع رابع في سورة الانشقاق، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ” [الانشقاق: 14].
والملاحظ، أن لفظ “حَوْر” قد ورد، هنا في الآية الكريمة، في صيغة الفعل؛ بما يعني يرجع (حار فلان يحور إذا رجع) أي إن هذا الإنسان “ظن أنه لن يرجع”. والملاحظ أيضا، أن السياق القرءاني، في السورة يتناول موقف الإنسان من الحساب، يوم الحساب. يقول عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ٭ فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ٭ فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ٭ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا ٭ وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ ٭ فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا ٭ وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا ٭ إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا ٭ إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ٭ بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا” [الانشقاق: 6-15].
أما المواضع التي ورد فيها لفظ “حوار”، في التنزيل الحكيم، فقد ورد في صيغة “يحاوره”، وذلك في قوله سبحانه: “وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا” [الكهف: 34].. وأيضا، في نفس السورة، في قوله تعالى: “قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا” [الكهف: 37].
أما الموضع الأخير الذي ورد فيه لفظ “حوار”، فقد ورد في صيغة “تحاوركما”، في قوله عزَّ وجل: “قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ” [المجادلة: 1].
وهذا هو الموضع الوحيد، في آيات التنزيل الحكيم، الذي ورد فيه أحد مشتقات لفظ “جدل” مع أحد مشتقات لفظ “حور”.
إلا أن ما نود التأكيد عليه، في بداية دراستنا عن الحوار القرءاني، أن الحوار في التنزيل الحكيم لا يمكن حصر مساحته في الآيات الكريمات التي تتضمن مادة “حوار” فقط؛ ولكن، يمكننا أن نعتبر كل المواد الحوارية الواردة في القرءان الكريم، بمثابة الشاهد على مسألة الحوار القرءاني.
كمثال، الأمر الإلهي إلى نبي الله موسى، وأخيه هارون عليهما السلام، بالذهاب إلى فرعون ومحاورته؛ يقول تبارك وتعالى: “ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكۡرِي ٭ ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٭ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ” [طه: 42-44]. وهنا لنا أن نُلاحظ كيف تمحوّر الأمر الإلهي بخصوص الحوار مع فرعون، ودعوتهما إياه، حول “فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا”؛ أي إن دعوتهما فرعون بوصفها أمرا إلهيا، تكون بكلام سهل رقيق “لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ”.
والأهم من ذلك، كيف أن السياق القرءاني التالي لهذه الآيات الكريمة، تضمنت حوارا بين موسى وأخيه -عليهما السلام- والمولى سبحانه وتعالى، كما في قوله جل جلاله: “فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ ٭ قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ ٭ قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ” [طه: 44-46].
وللحديث بقية.