على خُطى دول أفريقية أخرى، ممن بات قياداتها – أو معظمها – من جيل جديد، رافض للهيمنة الفرنسية؛ رفعت السنغال “الكارت الأحمر” بوجه فرنسا. ففي خطاب ألقاه بمناسبة العام الجديد، أكد الرئيس السنغالي، باسيرو ديوماي فاي “إنهاء كل الوجود العسكري للدول الأجنبية في السنغال، اعتبارا من عام 2025”. وبذلك حدد فاي للمرة الأولى موعدا لإغلاق القواعد العسكرية الأجنبية، في هذه المستعمرة الفرنسية السابقة، والتي كانت تتمتع بعلاقات قوية مع الغرب، وباريس بشكل خاص.
والواضح أن فرنسا تعتبر تاريخيا إحدى القوى الاستعمارية الكبرى، التي احتفظت بنفوذها في غرب إفريقيا لفترة طويلة بعد استقلال دول المنطقة. ومع الإعلان عن انسحاب القوات الفرنسية من السنغال، فإن هذا القرار يفتح باب التساؤلات حول التداعيات الإقليمية، وخاصة على منطقة المغرب العربي التي تتأثر بالتحولات الأمنية والجيوسياسية في إفريقيا جنوب الصحراء.
فما هي تداعيات هذا الانسحاب على المغرب وموريتانيا بشكل خاص، بالنظر إلى موقعهما الجغرافي والاستراتيجي في منطقة غرب أفريقيا.
لعل أهم التداعيات المتوقعة جراء الانسحاب الفرنسي من السنغال هي:
– التحديات الأمنية؛ الانسحاب الفرنسي من السنغال سيؤدي إلى فراغ أمني في غرب إفريقيا، وهو ما قد يزيد من التحديات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء. ومع تزايد نشاط الجماعات الإرهابية المسلحة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، من المحتمل أن تسعى هذه الجماعات إلى توسيع نطاق عملياتها نحو مناطق أكثر استقرارا مثل موريتانيا والمغرب. هذا التحول قد يؤدي إلى تصاعد التهديدات الإرهابية على حدود المغرب وموريتانيا، خاصة في ظل انفتاح الفضاء الأمني بعد غياب القوات الفرنسية، بما يزيد من التحديات الأمنية في مواجهة هذه الجماعات.
– المؤثرات الاقتصادية؛ إذ تعتمد موريتانيا بشكل كبير على استقرار منطقة الساحل، لنجاح مشاريعها الاقتصادية، خصوصا تلك المتعلقة باستخراج الموارد الطبيعية مثل الغاز والنفط. انسحاب فرنسا قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، وهو ما قد يؤثر سلبا على الاقتصاد الموريتاني من خلال تعطيل الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية. أما المغرب الذي يطمح إلى تعزيز دوره الاقتصادي في إفريقيا، فقد يواجه هو الآخر تحديات في تعزيز تعاونه الاقتصادي مع دول غرب إفريقيا في ظل هذه الاضطرابات.
بعد الانسحاب من السنغال، ستحاول فرنسا التوجه نحو المغرب، وذلك عبر الاعتماد على عاملين مهمين:
– التعاون العسكري من الناحية التاريخية: تتمتع المغرب بعلاقات وثيقة مع فرنسا، سواء في الجوانب السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. في ظل الانسحاب الفرنسي من السنغال، قد تجد الرباط نفسها مطالبة بلعب دور أكبر في القضايا الأمنية الإقليمية. ومن المحتمل أن تحاول فرنسا الاعتماد أكثر على شركائها التقليديين في شمال إفريقيا -بما في ذلك المغرب- لتعويض غيابها في غرب إفريقيا. هذا التعاون قد يتجسد في تعزيز التنسيق الاستخباراتي أو الدعم اللوجستي لمواجهة التهديدات الإرهابية في المنطقة.
– الفرص الاقتصادية: في الوقت الذي قد يُشكّل فيه الانسحاب الفرنسي تحديا أمنيا، قد يوفر أيضا فرصا اقتصادية للمغرب. فالرباط تسعى إلى تعزيز حضورها الاقتصادي في إفريقيا، وخاصة في غرب إفريقيا، حيث تُعتبر السنغال شريكا تجاريا رئيسا.
الانسحاب الفرنسي قد يفسح المجال أمام المغرب لملء الفراغ، وتوسيع نطاق استثماراته ومشاريعه الاقتصادية في السنغال والدول المجاورة.
بالنسبة إلى موريتانيا، فإن الانسحاب الفرنسي من السنغال قد يوفر لها بعض الفرص، وفي الوقت نفسه سوف يضع أمامها قدرا من التحديات.. كما يلي:
– التحديات الأمنية: تقع موريتانيا في موقع حساس بالقرب من منطقة الساحل، التي تشهد نشاطا مكثفا للجماعات الإرهابية. انسحاب فرنسا قد يزيد من الضغوط الأمنية على نواكشوط، خاصة وأنها تعتمد بشكل كبير على الدعم الفرنسي في تأمين حدودها ومواجهة التهديدات الإرهابية. بدون هذا الدعم، قد تجد موريتانيا نفسها في مواجهة مباشرة مع تصاعد الهجمات الإرهابية، وهو ما قد يؤثر على استقرارها الداخلي تأثيرا كبيرا.
– الفرص الاقتصادية: موريتانيا تُعتبر دولة غنية بالموارد الطبيعية، وخاصة الغاز والنفط. مع انسحاب فرنسا، قد تظهر فرص جديدة للشراكات الاقتصادية مع دول أخرى تسعى لملء الفراغ الذي ستتركه باريس. هذا قد يشمل استثمارات دولية جديدة في قطاع الطاقة والبنية التحتية، وهو ما قد يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي في البلاد.
بالطبع، سيؤثر الانسحاب الفرنسي من السنغال، على رؤية الدول الغربية لمنطقة غرب أفريقيا، وهو ما سيؤدي إلى مواقف محددة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كما يلي:
– الولايات المتحدة والناتو؛ بالرغم من الانسحاب الفرنسي، من المتوقع أن تستمر الدول الغربية في مراقبة الأوضاع في غرب إفريقيا. الولايات المتحدة وحلف الناتو قد يضطران إلى زيادة التزامهما الأمني في المنطقة، لمواجهة التهديدات الإرهابية، ومنع تصاعد النفوذ الروسي أو الصيني. هذا قد يتضمن تعزيز التعاون مع دول شمال إفريقيا، بما في ذلك المغرب وموريتانيا، لدعم الاستقرار في منطقة الساحل.
– مواقف الاتحاد الأوروبي؛ يعتمد الاتحاد الأوروبي على الاستقرار في غرب إفريقيا، لمنع تدفقات الهجرة غير النظامية وتأمين مصالحه الاقتصادية في المنطقة. انسحاب فرنسا، قد يدفع الاتحاد إلى اتخاذ خطوات لتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي مع دول المغرب العربي. من المحتمل أن نشهد زيادة في دعم الاتحاد الأوروبي لمشاريع التنمية والاستقرار في موريتانيا والمغرب، لتعويض الفراغ الذي ستتركه فرنسا.
في هذا الإطار.. فإن الانسحاب الفرنسي من السنغال يعتبر تحولا استراتيجيا مُهِمَّا في العلاقات الفرنسية الإفريقية، وله تداعيات بعيدة المدى على منطقة المغرب العربي، خاصةً المغرب وموريتانيا. التحديات الأمنية التي قد تترتب على هذا الانسحاب، ليست هينة بالطبع. ولكن رغم أن الانسحاب يفتح الباب أمام مخاطر جديدة، إلا أنه يوفر أيضا فرصا اقتصادية وسياسية لدول المغرب العربي لتعزيز دورها في غرب إفريقيا.
فضلا عن ذلك، فإن الانسحاب الفرنسي قد يؤدي إلى زيادة التنافس بين المغرب والجزائر على النفوذ في غرب إفريقيا. إذ إن البلدين يسعيان لتعزيز دورهما الإقليمي، والانفتاح على إفريقيا جنوب الصحراء؛ ما يعتبر جزءا من استراتيجيتيهما الوطنية؛ وفي ظل غياب فرنسا، قد يكون هناك تنافس أكبر بين البلدين لملء الفراغ الدبلوماسي والاقتصادي في المنطقة.