لا تزال تطورات المعركة الهائلة، التي بدأها طوفان الأقصى تتداعى.. وتنكشف من خلالها مكامن القوة والضعف في دول المنطقة، وركائز السياسات للأطراف الفاعلة والأطراف المحجمة عن الفعل، والخطوط العريضة للاستراتيجيات المتبعة في المعسكر الغربي تجاه المنطقة.
وللأسف الشديد تحوّل – في الأسابيع الأخيرة- مجرى الأحداث الذى كان يسير ضد المحتل الإسرائيلي بفعل الصمود البطولي لشعب غزة، وكل صور المقاومة.. إلى أن استشهد القائد حسن نصر الله والكثيرون من رفاقه، وسقط بطل الطوفان يحيى السنوار على أرض غزة، مقاتلا ضاربا المثل في الإصرار ووضوح الرؤية- تغيّر سير المعارك لصالح العدو الذى أظهر حيوية لا ينبغي إغفالها في التعامل النشط بكل عنف، وكسر كل قواعد القانون الدولي على جبهات متعددة. ولولا الدعم الأمريكي البريطاني الهائل عسكريا واستخباراتيا إلى جانب باقي مخالب الناتو لانهار وانهزم.
لكن تغيّر مسار الحرب لم يعتمد على السلاح والعتاد وطول النفس فقط، ولكن على القدرة على المناورة وانتهاز الفرص أيضا. وللأسف كان مقاتلو غزة وحدهم؛ فرغم أن حزب الله مثّل جبهة إسناد للمقاومة، واضطر جيش الاحتلال إلى الحرب في الشمال؛ تخفيفا على المقاومة في الجنوب؛ إلا أنه ابتلع طعم التهديد الأمريكي؛ فأحجم عن التدخل المباشر في المعركة وانتظر فتأخر، بينما وقف الغرب كله مع أعدائهم؛ وتحوّل المد لصالح إسرائيل التي التقطت الأنفاس، خلال عام القتال الضاري، ورتبت خطواتها مع تركيا!
وفى لحظة اهتزاز حزب الله والمقاومة، سارت مجموعات المرتزقة المتطرفين من جنوب سورية بمساعدة إسرائيل، ومن شمالها بمساعدة تركيا، نحو دمشق التي أُنهِكَت بفعل عوامل عديدة؛ ليسقط النظام الأسدي على نحو مفاجئ سقوطا مدويا.
ما يعنينا هو سورية التي لم تكن طرفا في المعارك المباشرة- كيف سقطت وقدمت كجائزة لتركيا وإسرائيل وتغيّرت بسقوطها -أو ربما اتضحت به- خريطة الصراع الجيوسياسي في المنطقة. تقدمت القوتان شمالا وجنوبا لقضم أجزاء من سورية؛ وللقضاء على مستقبلها في الإقليم في الأمد المنظور، وتأكد أن الصراع على الشرق الوسط أصبح ثلاثيا بين تركيا وإسرائيل وإيران، التي أضعفت التطورات الأخيرة موقفها، لكنها لم تخرج بعد من حلبة الصراع، وربما تربض السعودية على مقربة؛ تستشرف دورا لطالما سعت إليه، منذ نشأة المملكة – قرابة عشرين عام قبل نشأة إسرائيل- ولا يزال الجميع يتنافسون تحت مظلة الهيمنة الأمريكية، وإن ظل النفوذ الروسي والصيني حاضرا على استحياء.
أطماع إسرائيل تتحرك في اتجاهين: أولهما التوسع الجغرافي بضم واستيطان المزيد من الأراضي العربية، كما أعلن أعضاء حكومتها في الخرائط المنشورة سابقا وحديثا، والتي تقتطع أجزاء من سوريا والعراق والأردن ومصر والسعودية، وما يستتبع ذلك من التطهير العرقي لكل الفلسطينيين منها سواء بالإبادة أو التهجير، وثانيهما بسط النفوذ الاقتصادي على مجمل المنطقة، وفرض السيطرة العسكرية عليها بالذراع الطويلة التي هدد بها نتانياهو في تصريحاته الهمجية.
أما تركيا فلا تزال تعالج أزمة الهوية التي أصيبت بها منذ سقوط الإمبراطورية ونحا بها أتاتورك إلى حظيرة الغرب التي لم تتقبلها؛ ولذا فهي تظل تراوح نوستالجيا الحنين لإعادة المجد التليد، باسترداد تدريجي للنفوذ في المنطقة العربية واستدعاء هوية إسلامية عصرية، تكاد تكون فولكلورية، بمظاهر الدعم السطحي لجماعات الإسلام السياسي والارهابي مثل الإخوان و”داعش” وهى تصارع في الوقت نفسه النمو المتزايد لحركات الانفصال الكردية الآخذة في النمو بتأييد غربي. وتركيا في ذلك مثل إسرائيل، تعمد جغرافيًا الى قضم مناطق عربية، كسعيها لضم حلب وما حولها، ووثوبها إلى ليبيا، بجانب مد النفوذ الاقتصادي، عبر نمو مضطرد لحجم التبادل التجاري مع الجميع، وهي في هذا تتنافس حاليا بشدة مع إسرائيل ومستقبلا مع إيران، وتحتفظ في ذلك بخط الرجعة أمام الإخفاق المهين في الانتماء للغرب باستمرار عضويتها في الناتو.
أما إيران فتهدف أيضا للتوسع وبسط النفوذ، بغطاء ديني شيعي مشابه للغطاء التركي السنى، وبالتزام الدفاع عن القضية الفلسطينية، الذى تدعيه تركيا أيضا. وفى ذلك تعتمد إيران خطين مختلفين: أولهما تنمية القدرة العسكرية بهدف نهائي نووي يضمن لها الأمن، والآخر مد النفوذ سياسيا وعسكريا عبر حلفاء إقليميين (العراق سوريا لبنان واليمن) جرى ضربهم من المعسكر الصهيوني المناوئ.
لكن إيران تحتفظ بأوراقها ولا يمكن التنبؤ بسهولة بباقي نواياها، ولا يمكن إسقاطها من الحسابات الجارية لاستعادتها إلى حظيرة النفوذ الأمريكي، وهو ما يفسر رفض أمريكا لضربها، رغم الإلحاح الإسرائيلي على ذلك.
وبإضعاف الدور الإيراني مرحليا؛ تبدأ إسرائيل في الالتفات لباقي المحيط العربي، لتحويل هزائمها إلى مكاسب، باقتطاع المزيد من الأراضي، وتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين، في غمرة الاضطراب الحادث، ولتثبيت الكيان الصهيوني، وتوسيع رقعته وفرض السيطرة بالقوة الغاشمة لجيشها كما هدد نتانياهو.
والتكهنات تدور بمن ستبدأ آلة العنف الإسرائيلية، هل بالعراق، أم باليمن، أم بالأردن ومصر؟ لم ينف الإسرائيليون أنهم يريدون تهجير الفلسطينيين، وأي تفكير منطقي لاستقراء النوايا الليكودية، لابد وأن يصل إلى أن التهجير لابد وأن يكون في صدر أولوياتهم، لعكس المهانة التي تجرعها الكيان الصهيوني على يد المقاومة الباسلة، وتحويلها الى انتصار، ثم التقدم لإنهاء القضية الفلسطينية برمتها، وبدء التوسع الأفقي.
وإذا فكرنا فيما ستبدأ به إسرائيل؛ فلا بد من الحذر الشديد من جانب مصر، فالعراق وسوريا.. وحتى اليمن أهداف يمكن الانتظار عليها لأوقات لاحقة، والاختيار بين تهجير أهل الضفة أو أهل غزة، يرجح أن يكون تهجير أهل غزة أكثر مناسبة من تهجير أهل الضفة، بعد التدمير الهائل لمعظم القطاع والإنهاك اللانهائي لأهله، بحيث يصبح الهرب إلى صحراء سيناء من وجهة نظرهم ضرورة حياة، تهون دونها ثوابت الصمود والتمسك بالأرض الوطن، والإسرائيليون يطمعون في أن إضعاف مصر بحزام الديون التي أغرقتها في السنوات الأخيرة، ومعاناة المصريين الاقتصادية، سيمنعها من المقاومة الفعلية للتهجير، رغم الرفض الرسمي المُعلن. وربما يعلقون آمالا على التململ الشعبي تحت وطأة الضغوط الاقتصادية، واستمرار صندوق النقد في حصار الاقتصاد المصري، وتكبيله بفوائد الديون وإغرائه بالمزيد؛ أملا في اهتزازات داخلية ينفذون أثناءها إلى سيناء مثلما فعلت إثيوبيا حين استغلت الانشغال المصرى بعد ثورة يناير، وفرضت مؤامرة سد النهضة لسد مجرى النيل، والتحكم في شريان الحياة للوادي الذى امتد لآلاف السنين.
ورغم انتقادات كثيرة معتبرة لتوجهات النظام المصرى الاقتصادية؛ إلا أنه يجب التسليم بأن إدارة السياسة المصرية، خلال هذه الفترة العصيبة، توخت الحذر في التعامل مع أزمة الحرب، على غزة ولبنان، وحافظت على تجنب التصعيد، مع استمرار رفض التهجير، لكن الضغط الإسرائيلي والمؤامرات التي لم تتوقف حتى بعد معاهدة السلام، لا تترك أي مجال للاطمئنان، ولابد من إيجاد صيغة جديدة لبناء تفاهم أعمق بين النظام والقيادة، وبين النخب الوطنية المؤيدة والمعارضة من أجل اصطفاف قوى لمجابهة الخطر المحتمل؛ خاصة وأن إسرائيل بدأت تتململ من معاهدة السلام، وربما تسعى للخروج من إسارها كما فعلت في سورية، والنظام المصرى لا يمكن أن يواجه ذلك دون ظهير شعبي قوي، وهو ما يصعب تحققه؛ إذا ما ظلت الأغلبية مستنزفة تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية متواصلة.
إن الغرب -عموما- بقيادة أمريكا وبريطانيا؛ مستمر بإصرار في حماية مشروع الاستعمار الاستيطاني لإسرائيل في المنطقة بالتحالف العضوي معها كرأس حربة لضمان النفوذ والسيطرة المستمرة على الشرق الأوسط، والوسيلة الأساسية هي استعمال القوة المفرطة التي وصلت الى حد الإبادة في فلسطين، والحصار الاقتصادي لإضعاف مصر، بالإضافة إلى أزمة سد النهضة والمناوشات على الحدود في سيناء وليبيا والسودان.. وهي بعض وسائل الاستراتيجية الغربية الشريرة، والتي لا يمكن مجابهتها إلا بجبهة داخلية صلبة ومتماسكة وهذا هو التحدي الآني الأكثر إلحاحا.