الحوار ظاهرة إنسانيّة، وهو أسلوبٌ يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في رأيه، قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره. و”الحوار”، في اللسان العربي، من “حوُر” وهو “الرجوع والتردد بين شيئين”؛ والحَوْر “النقصان بعد الزيادة، لأنه رجوع من حال إلى حال”.
وكما أكدنا من قبل، لم يرد لفظ “حوار” في القرءان الكريم إلا في مواضع ثلاثة؛ جاءت اثنتان منها في سورة الكهف، وذلك في معرض الحديث عن قصة “صاحب الجنتين” وحواره مع صاحبه الذي لا يملك مالا كثيرا؛ أما الموضع الثالث فقد جاء في سورة المجادلة. إلا أن لفظ “حَوْر” قد ورد في موضع رابع في سورة الانشقاق، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ” [الانشقاق: 14].
إلا أن ما نود التأكيد عليه، في دراستنا عن الحوار القرءاني، أن الحوار في التنزيل الحكيم لا يمكن حصر مساحته في الآيات الكريمات التي تتضمن مادة “حوار” فقط؛ ولكن، يمكننا أن نعتبر كل المواد الحوارية الواردة في القرءان الكريم، بمثابة الشاهد على مسألة الحوار القرءاني.
الحوار الإلهي
يكفي أن نُشير هنا، إلى الحوار الإلهي مع الملائكة بخصوص خلق آدم عليه السلام؛ وهو ما يتبدى بوضوح من خلال قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].
أيضا، هناك الحوار الإلهي مع الأنبياء، وهو حوار يأتي في سياق “القصص القرءاني”؛ إذ لكل حوار إلهي مع نبي من أنبيائه عليهم السلام، يحمل مضمونا معينا، ويتضمن قضية محددة.
وكنا قد تناولنا في حديثنا السابق أحد هذه الأمثلة، وهو الحوار الإلهي مع نبي الله إبراهيم عليه السلام.. وفي ذلك، يأتي قول الله تبارك وتعالى: “وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ” [البقرة: 260]. وكما نلاحظ، فإن هذا الحوار الإلهي مع نبي الله إبراهيم، يؤكد على مشروعية الحوار، وأن الحوار هنا، هو شكل من أشكال الاستدلال التوضيحي.
وضمن هذا الشكل نفسه من الحوار الإلهي، بين الله عزَّ وجل وبين أحد أنبيائه، يأتي الحوار مع نبي الله موسى عليه السلام. وهنا، سوف نتأمل الحوار في سورة “طه”، حيث يبدأ القصص القرءاني في السورة بالإخبار عن الحوار الذي سوف يدور بين الله – سبحانه وتعالى- وموسى عليه السلام، بقوله سبحانه: “وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ٭ إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى” [طه: 9-10].
وما يهمنا هنا، هو المدخل إلى الحوار: “وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ”؛ إذ، الاستفهام في هذا المجال، يأتي للتنبيه ودفع المستمع أو القارئ، إلى الانتباه والاهتمام. أما الحوار بين موسى وأهله “فَقَالَ لِأَهۡلِهِ…”، فسيأتي في إطار البحث حول الحوار بين الأنبياء وأقوامهم.
وبعد هذا المدخل الاستفهامي مباشرة، تأتي مقدمة الحوار في قوله تعالى: “فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ ٭ إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى ٭ وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ ٭ إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ ٭ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ ٭ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ” [طه: 11-16]. ولنا أن نُلاحظ كيف بدأ الحوار الإلهي بالنداء، وأن النداء كان محددا باسم موسى “نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ”؛ وهو ما يؤشر إلى مدى التأثير النفسي على موسى، من حيث إن المُنادي (القائم بالنداء)، يعرفه تمامًا، ويريد طمأنته.
التعريف الإلهي
ليست هذه -أي بدء الحوار الإلهي بالنداء- هي الملاحظة الوحيدة.. لكن هناك عديد من الملاحظات، عبر تأمل السياق القرءاني في هذه الآيات الكريمة.
أولى هذه الملاحظات، تتعلق بـ”التعريف بالذات الإلهية” إذ بدأ الحوار الإلهي مع موسى بذكر “الربوبية” في قوله سبحانه: “إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ”، أي “ربك أنت تحديدا يا موسى”؛ وهو قول فيه ذِكر للعطاء، من حيث إن مفهوم الربوبية عناية ورعاية.. وهو ما يتأكد عبر السياق القرءاني التالي لهذه الآيات الكريمة، في قوله سبحانه: “وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ” [طه: 39]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي” [طه: 41]. هذا، في حين أنه تبارك وتعالى قد ذكر “الألوهية” تاليًا لذكر الربوبية “إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠”، من حيث إن دلالة الألوهية التكليف والعبادة وتقييد الحركة من خلال “افعل ولا تفعل”.
ملاحظة أخرى، تختص بالتأهيل النفسي الإلهي لنبيه موسى، كمقدمة لما سيأتي من تكليف إلهي بالمهمة التي سيقوم بها موسى، بـ”الذهاب إلى فرعون”. وهنا، يبدأ التأهيل بقوله عزَّ وجل: “فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ”، كنوع من إظهار المهابة لقداسة المكان والخضوع لما سوف يسمعه من كلام ربه؛ أي إنه أمر إلهي له عِلة وسبب “إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى”.
وسواء كان معنى “طُوٗى” هو اسم الوادي كما قال البعض من المفسرين القدماء، أو كان معناه مرتين نحو مُثنى أي قدس الوادي مرتين كما قال بعض آخر من المفسرين، أو كان يحمل دلالة الـ”طيِّ”، أي بالوادي المقدس الذي طويته طيًّا، كما نقول نحن اعتمادا على التدبر القرءاني للفظ “طيِّ”، كما في قوله تعالى: “وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ” [الزمر: 67].. سواء كان هذا، أو ذاك، أو ما قبلهما، فإن العبارة القرءانية “إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى” تأتي للتعليل، على الأمر الإلهي لموسى عليه السلام في بداية الحوار “فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ”.
وللحديث بقية.