تتوجه الأنظار نحو تحركات الإدارة الأمريكية، بعد تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكيفية التعامل الأمريكي مع أزمات الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الأوضاع في ليبيا؛ حيث تواجه ليبيا تحديات سياسية وأمنية معقدة. ومن ثم، قد تسعى إدارة ترامب إلى اتباع استراتيجية لعودة الاستقرار إلى ليبيا، خاصة في ظل التنافس الأمريكي مع كل من روسيا والصين، في هذا البلد وفي شمال أفريقيا عموما.
ولعل ذلك يتأكد إذا لاحظنا أن استقرارليبيا، بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية، هو مسألة استراتيجية؛ إذ إن شركات النفط الأمريكية وأصحاب المصالح الاقتصادية الأخرى، سوف يضغطون على إدارة ترامب لإعطاء أهمية للملف الليبي.
وهنا، فإن التساؤل المطروح: هل بإمكان الإدارة الأمريكية الجديدة تحقيق اختراق في الملف الليبي، أم إن العقبات المحلية والدولية ستظل تحديًا أمام الاستقرار في ليبيا؟
إدارة ترامب
لعل موقف دونالد ترامب من الأزمة الليبية هو جزء من التفاعل الأمريكي مع قضايا الشرق الأوسط، منذ اندلاع الأزمة الليبية في عام 2011. ومع تعاقب الإدارات الأمريكية، ظل الملف الليبي أحد الملفات الشائكة التي تحظى بأهمية استراتيجية، رغم التحديات المعقدة التي تواجهها الولايات المتحدة في تحقيق استقرار مستدام في هذا البلد الذي مزقته الصراعات والتدخلات الدولية والإقليمية. عند تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة، شهد موقفه من الأزمة الليبية تغيرات ملحوظة عما كان عليه الحال في عهد الإدارة السابقة بقيادة باراك أوباما، والتي لعبت دورا رئيسا في دعم التدخل العسكري للإطاحة بنظام معمر القذافي.
والواقع، عندما تولى دونالد ترامب منصب الرئيس الأمريكي، في يناير 2017، لم يكن الملف الليبي أولوية رئيسة في سياسته الخارجية؛ إذ تميزت إدارة ترامب بمحاولة الابتعاد عن التدخلات العسكرية في الخارج، وهو ما تجلّى في سياستها تجاه ليبيا. ففي بداية عهده، تجنبت إدارة ترامب التدخل المباشر في الصراع الليبي، وركزت في الغالب على محاربة الإرهاب في المنطقة، خصوصا في سياق الحرب ضد تنظيم “داعش”. ومع ذلك، ظلت الإدارة تفضل الاعتماد على الحلفاء الإقليميين والدوليين لإدارة الملف الليبي، بدلا من تحمل مسئولية التدخل المباشر.
لكن في عام 2019، شهد الموقف الأمريكي تحولا حينما أجرى دونالد ترامب مكالمة هاتفية مع الجنرال خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي الذي كان يشن حملة عسكرية للسيطرة على طرابلس. هذا الاتصال اعتُبر بمثابة إشارة ضمنية لدعم ترامب لحفتر، رغم أن هذا الأخير كان ينافس الحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة. هذا التحول في الموقف الأمريكي زاد من تعقيد الأزمة الليبية؛ إذ، إن إدارة ترامب لم تقدم استراتيجية واضحة لمعالجة الأزمة الليبية، بل اعتمدت على مواقف متناقضة من حين لآخر، ما أسهم في إطالة أمد الصراع.
عقبات الاستقرار
تتسم أزمة ليبيا بتعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية؛ فعلى الصعيد المحلي، توجد انقسامات سياسية عميقة بين الحكومات المتنافسة، والميليشيات المسلحة التي تتصارع على السيطرة على مناطق النفوذ. حكومة الوحدة التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة في الغرب، المدعومة من الأمم المتحدة وتركيا، تقابلها حكومة أسامة حماد وقوات حفتر في الشرق، المدعومة من مصر والإمارات وروسيا. كما توجد مجموعات مسلحة غير منضبطة تنشط في مختلف أنحاء البلاد، بما يزيد من تعقيد المشهد، ويعوق جهود الوصول إلى تسوية سلمية.
على الصعيد الدولي، تتداخل مصالح العديد من القوى الإقليمية والدولية في الصراع الليبي. روسيا، التي تدعم حفتر والجيش الوطني الليبي، تسعى إلى توسيع نفوذها في منطقة شمال أفريقيا وشرق المتوسط. تركيا، من جانبها، تدعم حكومة الدبيبة، وتحاول تأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة. كما أن مصر والإمارات، من جانب آخر، لهما مصالح استراتيجية في دعم الجيش الليبي كجزء من تصديهما للنفوذ “الإخواني” في ليبيا. هذه التدخلات الدولية تجعل من الصعب الوصول إلى حل “ليبي- ليبي” بحت دون توافق دولي وإقليمي.
رغم ذلك، يمكن للإدارة الأمريكية الجديدة أن تستغل موقعها لقيادة جهود دبلوماسية دولية تهدف إلى إنهاء الصراع في ليبيا؛ فبفضل علاقاتها مع كل من تركيا وروسيا ودول الخليج، تستطيع واشنطن ممارسة ضغوط على الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في النزاع، لدفعها نحو حل سياسي يضمن استقرار ليبيا.
تحديات واقعية
رغم الفرص المتاحة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة لتحقيق اختراق في الملف الليبي، إلا أن التحديات تظل قائمة. فعلى المستوى المحلي، لا تزال هناك ميليشيات مسلحة قوية تسيطر على أجزاء من البلاد، وتستفيد من الفراغ السياسي والأمني؛ كما أن التدخلات الخارجية، خاصة من قبل روسيا وتركيا، تجعل من الصعب تحقيق توافق ليبي داخلي بدون تدخل دولي فعال.
على المستوى الدولي، يظل الصراع الليبي ساحة لتنافس القوى الكبرى والإقليمية. روسيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة عبر دعم حفتر، فيما تستخدم تركيا ليبيا كقاعدة لتعزيز مصالحها في البحر الأبيض المتوسط. هذه التداخلات الإقليمية والدولية تزيد من تعقيد الحلول الممكنة.
إضافة إلى ذلك، فإن الوضع الاقتصادي في ليبيا يمثل تحديا كبيرا. الاقتصاد الليبي يعتمد بشكل كبير على النفط، وهو ما جعل حقول النفط والموانئ هدفا للصراعات بين الأطراف المتنازعة. وبالتالي، إن إعادة استقرار الاقتصاد الليبي ستكون ضرورية لتحقيق الاستقرار السياسي، ويجب أن تكون جزءًا من أي استراتيجية شاملة لحل الأزمة.
وهكذا.. يبقى السؤال المحوري، هنا، هو: هل تستطيع الإدارة الأمريكية الجديدة تحقيق اختراق في هذا الملف الشائك؟؛ الإجابة ليست واضحة تمامًا. فبينما توجد فرص لتغيير مسار الأحداث في ليبيا، تتطلب هذه الجهود تعاونًا دوليا وتنسيقا مع الأطراف الإقليمية؛ كما أن الحلول العسكرية لا تبدو خيارا واقعيا، خاصة في ظل تعقيدات الوضع الداخلي الليبي والانقسامات السياسية والقبلية.
في النهاية، فإن مستقبل ليبيا يعتمد على مدى استعداد القوى الداخلية والخارجية للتوصل إلى تسوية شاملة.