بقلم: إبراهيم عبد المجيد، نقلا عن موقع ذات مصر
هذا كتاب رائع، فكرا وموضوعا.. أنجزه الإعلامي والكاتب الكبير حسين عبد الغني، وصدر حديثا عن دار الفَلَق في لندن، بنفس العنوان، في ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير.
حسين عبد الغني، هو كاتب وصحفي ومحلل سياسي، أمضى أربعين عاما بين الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، وشمل عمله صحفا مصرية وعربية عديدة مثل: النهار وجريدة عُمان والرأي العام الكويتية، وهو المؤسس لمكتب الجزيرة بالقاهرة، الذي أداره لأربعة عشر عاما، ما بين عامي 1997-2010. يكتب الآن بانتظام في موقعيْ عروبة 22، وجريدة عمان.
يقول عن الكتاب، أنه ليس محايدا! ستجد فيه تحليلا موضوعيا، لا ينكر الحقائق ولا يبيع الأوهام، لكنك قطعا ستجد فيه رأيا منحازا لخيار المقاومة ونهج التحرر من الهيمنة، كما أنه جرس إنذار من كابوس الاستسلام العربي.. والحقيقة أن الكتاب كذلك.
الكتاب من تسعة فصول ومقدمة، يحتوي على مئة مقال متفرقة بين الفصول، ومحاضرات ومقابلات تليفزيونية أجراها الكاتب في عامي 2023- 2024. جاء تقسيمها موضوعيا حول القضية، وفي داخل كل فصل. لن أمشي مع الكتاب بالتدريج بين الفصول، بقدر ما سأتحدث عن أهم القضايا كما وردت في فصول مختلفة.
طوفان الأقصى باختصار حدث تاريخي، مهما اختلف حوله الناس، وستكون له آثاره عبر الأجيال التالية، ليس علي فلسطين وحدها أو إسرائيل فقط، لكن علي الشرق الأوسط والصراع العالمي وأقطابه. الكاتب المناصر لطوفان الأقصى يأتي بتوثيق دقيق لمحطات في الصراع، رغم ما رأيناه من تفاوض مخادع، حتي وصلنا إلي النجاح الأخير في المفاوضات الذي به أُوقفت الحرب، والكتاب منشور قبل الاتفاق الأخير بأيام قليلة وفيه نبوءة بذلك.
أعاد طوفان الأقصى إلى الفكر جولات الصراع العربي الإسرائيلي، وما بينها وبينه من تشابه أو خلاف. المعادون للمقاومة من فلسطيني أوسلو وعرب التطبيع القديم والجديد، يقارنون الطوفان بالجولة الأولى من الصراع عام 1948، ويعتبرونه نكبة جديدة قياسا على عدد الشهداء والجرحى من الفلسطينيين، لكن في المقابل المنسي؛ فشعب غزة رفض التهجير، كما أن المقاومة كبَّدت العدو خسائر كبيرة جدا في يوم واحد، هو السابع من أكتوبر 2023.
ومن يوم الطوفان حتي منتصف نوفمبر 2024، طبقا لإحصاءات إسرائيل الرسمية، خسرت إسرائيل ثمانمائة عسكري ما بين ضباط وجنود احتياط، واثني عشر ألف مصاب، فضلا عن مئات المدنيين والمختطفين من العسكريين والمدنيين في مواجهات يومي السابع والثامن من أكتوبر، بعد اقتحام المقاومة مستوطنات غلاف غزة، وتدمير فرقة غزة الإسرائيلية. مقارنات للمؤلف بين طوفان الأقصى وسائر الحروب الأخرى سواء حرب 1956، أو 1973، أو حرب الاستنزاف 1968-1970، أو حرب منظمة التحرير في لبنان 1982، أو حرب تموز 2006، في لبنان أيضا وغيرها، وكيف تأتي معركة طوفان الأقصى؛ لتكشف كذبة السلام مع إسرائيل، وكذبة توازن أميركا بينها وبين العرب، وهو التوازن الذي ظهر كذبه في الانحياز التام من أميركا لإسرائيل.
لقد فتح الطوفان الجروح القديمة، والأسئلة التي يُراد طمسها، ومنها كيف تحوَّل النظام الإقليمي العربي السائد، منذ غزو العراق للكويت عام 1990، عبر السنين إلى وحدات متنافرة، وأحيانا متعادية لبعضها أكثر من عدائها لإسرائيل.
يناقش الكاتب الطرق التي أدت إلى طوفان الأقصى، وكيف كانت كلها تؤدي إليه. اتفاقيات في تاريخنا المصري والعربي تمت كلها في شهر سبتمبر، مثل اتفاقية لندن 1840، التي حطَّمت جزئيا مشروع النهضة لمحمد علي، أو مؤتمر الصلح في باريس 1919، ووعد بلفور الذي سبقه ومعاهدة سايكس بيكو.
في حالتنا الفلسطينية تأتي اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، واتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر 1993. في كلتي الاتفاقيتين كان لدى الطرف العربي ما حققه في ميزان القوى، سواء بالعبور العظيم في أكتوبر 1973، أو انتفاضة الحجارة الأولى بفلسطين عام 1987.
استخدم الإسرائيليون اتفاق أوسلو لقضم ما يقترب من 50% من الضفة الغربية، وزرع مستوطنات تصل إلى 121 مستوطنة. وعلى الجانب السياسي جرى تهميش الفلسطينيين وقضيتهم، فلم تعد لها أولوية في العالم العربي، وإن كان ذلك لم يمنع ظهور جيل جديد من الفلسطينيين يتجاوز الانقسام بين الضفة وغزة، بل يتجاوز الانقسام بين أراضي الخط الأخضر ما قبل 1967، والأراضي المحتلة بعد 1967، ويوحِّد وجدان الشعب الفلسطيني من البحر المتوسط إلي نهر الأردن.
حقا ظهر موقف بعض النظم العربية بين التخاذل أو التواطؤ علنا، أو في الغرف المغلقة مع أميركا وإسرائيل، علي هدف سحق المقاومة، لكن الأثر العالمي لطوفان الأقصى ظهر في هز النظام العالمي ذي القطب الواحد، فالصين وروسيا لا تخفيان مناصرتهما لإيران، فضلا عن كوريا الشمالية. كذلك فجَّر الطوفان أكبر حركة احتجاج عالمي للشباب، تذكرنا بحركة الشباب في الستينات في أوربا وأميركا ضد حرب فيتنام.
-2-
كشفت طوفان الأقصى كيف أن إسرائيل دولة دينية، وليست وطنية ولا ديموقراطية، بل هي مجتمع عسكري. كل حكامها منذ بن جوريون حتى نتنياهو، لم يكن بينهم من لم يخدم في الجيش أو المنظمات العسكرية الإرهابية، وهكذا صارت مجتمعا منقسما على نفسه، وأوضحت الأيام بعد طوفان الأقصى ذلك.
انتهى التوازن بين العلمانيين والدينيين بصعود اليمين، لكن لا تكف المظاهرات في إسرائيل ضد ذلك؛ ما يشي بانهيار الداخل. كانت هناك نبوءة ما قبل الطوفان، حين أفرجت إسرائيل عن جزء من وثائق وملفات حرب أكتوبر بعد مرور خمسين سنة علي الحرب. أوضحت الوثائق كيف كان الأداء الاستخباراتي والعسكري والسياسي لإسرائيل في الأسبوع الأول للحرب كارثيا. ليس بسبب نقص المعلومات لديهم، لكن للثقة الزائدة عندهم بالنفس إلي درجة الغرور.
وكشفت الوثائق عن عملاء عرب وغيرهم، لكن الغرور استمر حتي السابع من أكتوبر، ما جعل إسرائيل لا تتصور أنها يمكن أن تتعرض إلى صدمة مثل صدمة أكتوبر1973.
نتنياهو هو المتغطرس الأكبر الآن، فلم يهتم أبدا بتحذير محللين عسكريين وسياسيين مخضرمين قبل أسبوع من الطوفان، من تصعيد متوقع من حركة حماس ومعها حركة الجهاد. ولقد كتب حسين عبد الغني نفسه مقالا قبل أسبوع من طوفان الأقصى يقول فيه، أن غطرسة نتنياهو لا تقل عن غطرسة جولدا مائير، وأن هذه الغطرسة الحالية؛ قد تقود إلى سوء تقدير مماثل لما حدث في 1973.
آثار بعيدة المدي لطوفان الأقصى عَنْوَنَها الكاتب في جملة “بزوغ شرق جديد”. فهنا سقوط لنظرية الأمن الإسرائيلية، وسقوط نظرية إبادة حماس والمقاومة، رغم قتل زعمائها منذ المؤسس السياسي أحمد ياسين حتى السنوار، وسقوط نظرية الهوس بالتكنولوجيا، فكل التقدم فيها لم يمنع الفلسطينيين عن حربهم المباشرة. كما سقطت أسطورة العقلانية التامة في قرارات السياسة الخارجية للدول الكبرى. فمساندة أميركا لإسرائيل فيها مثلا مغازلة للوبي اليهودي في عام الانتخابات الرئاسية. كذلك سقوط نظرية نتنياهو وأبو مازن بوصفهما زعيمين للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. وكما قال الصحفي سيمور هيرش في 12 من أكتوبر 2023 فإن نتنياهو انتهي سياسيا، فهذا الرجل الذي حكم إسرائيل لحوالي ربع قرن بأسطورة أنه حامي وجودها وتفوقها علي ما حولها، جاء طوفان الأقصى ليجعل أسطورته “كملك لإسرائيل” بالمعنى التوراتي بيتا من رمال.
-3-
والآن من غيَّر قواعد اللعبة؟ يتسع الحديث في ذلك. وقبل تزييف طوفان الأقصى سيسجل التاريخ أنه أعطي علامة كبرى وليست صغري -في المدى الطويل- على هزيمة المشروع الإسرائيلي بوصفه مشروعا استعماريا استيطانيا وعنصريا.
سيسجل التاريخ سقوط القوائم الثلاثة للمشروع، وأولها أن إسرائيل هي الملاذ الآمن ليهود العالم، وقوة الردع التي لا تقهر. فبعد مفرمة اللحم التي قامت بها إسرائيل في غزة، وتسببت في فقد نحو مائة وخمسين ألف إنسان ما بين قتيل وجريح معظمهم من الأطفال، سقطت سردية الضحية التي هيمنت بها إسرائيل علي العالم، باعتبار اليهود ضحايا لنظم غربية، فصارت إسرائيل اليوم هي أكبر قاتل أطفال ونساء وصحفيين وأطباء وعمال إغاثة في التاريخ الحديث. أيضا لم تعد أيضا إسرائيل ملاذا آمنا لأي يهودي في العالم، بعد أن نقلت المقاومة الحرب علي أرضها لأول مرة. ثم سقط القائم الثالث وهو قوة الردع التي بُنيت على إخافة كل سكان الشرق الأوسط. نقاش حول اللعبة عبر التاريخ منذ كامب ديفيد، وكيف وصلت إلى محاولة تصفية القضية من بايدن في حديث مخادع عن حل الدولتين، إلا أنه أبقى على السفارة الأمريكية في القدس منذ ترامب، وسمح بتوحش النشاط الاستيطاني. مواقف بعض الدول من الأمر ومن أميركا، مثل السعودية التي أعلنت أنها لن تطبِّع سرا مع إسرائيل، قبل الاتفاق على طريق موثوق يقود إلى دولة فلسطينية.
من غيّر قواعد اللعبة غير المقاومة التي يلومها البعض؟ أمريكا غاضبة خشية أن تنتهي إمبراطورتيها، خاصةً بعد التغيير الذي أحدثته حماس بطوفان الأقصى. مفاوضات باطنها التأجيل لتحقيق أكبر قدر من الإبادة للفلسطينيين، لكن سقطت أسطورة استعداد اليهود للموت جميعا، كما حدث في الحكاية الأسطورية عن “قلعة الماسادا” التي لا دليل عليها، التي مات فيها تسعمئة يهودي حتى لا يقدموا تنازلات للحكم الروماني لفلسطين، وأنهم في وقت ما سيكونون مثل شمشون اليهودي التوراتي يهدم المعبد عليه وعلى أعدائه، والاستمرار في الحرب حتي النهاية.
في كل يوم يفقد الإسرائيليون جزءًا من الثقة في قادتهم بالجيش والسياسة، ويزداد الشعور بعدم اليقين في مستقبلهم ومستقبل الدولة. وكما وضح من قبل ضاعت علمانية إسرائيل أمام “ثيولوجيتها” الدينية.
صار الانقسام شرخا في المجتمع الإسرائيلي مع إخفاق الجيش في سحق المقاومة.
كيف كان الالتفاف على السابع من أكتوبر، والمراوغة في انتصار غزة، حتى تنتصر اسرائيل؟
حاول تلاميذ كيسنجر في السياسة الأمريكية إعادة ما فعله بعد نصر أكتوبر1973، باعتبار أن العرب في نظرهم، ونظر قادة إسرائيل قُدامي وجدد، لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، أو أمة مصابة بآفة النسيان.
لكن هل كان طوفان الأقصى في اجتياح غلاف غزة، وتدمير فرقة كاملة، والسيطرة علي عشرات الكيبوتزات، وقتل ما يقرب من ألف وخمسمائة إسرائيلي، وأسر نحو ثلاثمائة، تأكيدا على النسيان الذي يراهن عليه قادة أميركا وإسرائيل، ومعهم بعض القادة العرب وبعض من النخب العربية؟
لقد أدرك الجميع الآن أن ما تسعى إليه واشنطن، هو كيان منزوع السلاح بلا سيادة، تهيمن إسرائيل عليه بدون القدس والمسجد الأقصى ومعظم الضفة الغربية. مع طوفان الأقصى صارت لأول مرة منذ عام 1979، فرصة تاريخية للحركة الشعبية العربية، لاستعادة وحدتها وقدرتها على المبادرة. كما جاءت الفرصة للنظام الرسمي للتخلص من الهيمنة الأمريكية على قراراته. قوة دفع طوفان الأقصى وحَّدت مشاعر الجماهير العربية عبر البلدان والأجيال والطوائف حول المقاومة.
في الكتاب حديث ضافٍ عن كيف أثَّر طوفان الأقصى بالسلب على العلاقات الاسرائيلية المصرية. كيف ظهر للدولة المصرية أن إسرائيل لا تحترم معاهداتها، وأنها من أجل حلمها المزعوم بدولة يهودية نقية من النهر إلى البحر، مستعدة أن تدوس على أي معاهدة. سمعنا لأول مرة منذ أربعة عقود ونصف خطابا مصريا يلمح أن حرب اكتوبر قد لا تكون فعلا آخر الحروب، وأن مصر ستمنع مخطط إسرائيل لتهجير أهل غزّة إلى سيناء، ولم يتم التهجير.
-5-
حديث عن إيران وأميركا، أو العمائم والكاوبوي، والدول العربية التي اختارت الهامش، بينما إيران انخرطت بحساب. كيف كان الثالث عشر من إبريل عام 2024، بروفة القيامة في الشرق الأوسط. فيه ردت إيران على عدوان إسرائيل الذي استهدف قنصليتها في دمشق، بهجوم صاروخي مباشر، ومسيَّرات على الأراضي الفلسطينية.
شاركت دول عربية بشكل مباشر بمعلومات استخباراتية أو بالأسلحة في التصدي للهجوم الإيراني، وكما قال محللون إسرائيليون “حمت دول عربية إسرائيل” لكن استمر الأمر وتجلَّى فيما فعلته ايران بعد اغتيال فؤاد شكر رئيس أركان حزب الله في بيروت، ثم اغتيال إسماعيل هنية أرفع شخصية في حماس، ما كان تغيرا في قواعد اللعبة.
ظهرت رغبة نتنياهو في جر طهران وحلفائها في محور المقاومة إلى حرب إقليمية شاملة. أعطاه الحزب الديموقراطي الأمريكي والحزب الجمهوري ضوءا أخضر لذلك بعد زيارته لأمريكا في يوليو 2024. كان وراء ذلك احتمالات ثلاثة. منها غضب الإدارة الأمريكية من حماس لرفضها أي ضغوط عبر وسطاء من الحلف الإبراهيمي والسلطة الفلسطينية. والثاني استمالة اللوبي اليهودي في الانتخابات القادمة كالعادة، والثالث التصميم على احتكار إسرائيل للسلاح النووي في المنطقة. من ثم بدأ التصعيد المتدرج نحو حرب كبرى، فتبادلت إيران وإسرائيل الضربات الجوية، لكن أمريكا قيّدت إسرائيل عن ضرب الأهداف النفطية والنووية الإيرانية، لتجنُّب حرب واسعة قد تكون وخيمة العواقب على اسرائيل. حقا حققت إسرائيل انقلابا مؤقتا بمقتل إسماعيل هنية، وقادة حزب الله والسنوار قائد حماس وغيرهم، وتقدمت في الجنوب اللبناني، لكنها تراجعت وعادت المقاومة اللبنانية ووصلت صواريخ حزب الله إلي قلب إسرائيل وعرفت المخابئ الملايين منهم.
وهكذا فتوسُّع إسرائيل أيضا ظل محكوما برفض أميركا توسيع نطاق الحرب إلى حرب شاملة في الإقليم كله، تجعلها تسقط في مستنقع يشبه أفغانستان والعراق، بمعنى تجنُّب حرب شاملة مع إيران التي ناصرت وحلفاؤها مثل: حزب الله واليمن، المقاومة.
تمشي مع صفحات عن النصر المراوغ أو الخوف من العودة للمربع الأول ودور مصر في الحرب، وما قيل عن تراجع مصر أمام رغبة اسرائيل في عملية عسكرية في رفح أو محور فلادلفيا، وكيف كانت حملة ممنهجة على مصر. قيل أيضا أن الخمسين أو الستين مليار دولار التي حصلت عليها مصر من دول الخليج أو مؤسسات دولية، كانت من أجل نزوح الفلسطينيين من غزة إلي سيناء، ولكن سيظهر قريبا وليس قبل أعوام ولا شهور، لنعرف رفض مصر الحقيقي لهذا النزوح.
ربحت المقاومة الجولة الأولي للحرب، وكانت الاتفاقات كلها للترويع من قبل إسرائيل وأميركا.
خدعة ما قيل عن الخلاف بين أميركا وإسرائيل لا تنطلي على أحد، فالمهم هو كيف يحققون أغراضهم.
الخلاف هو بضاعة فاسدة يروجونها، والحقيقة أن هناك اتفاقا دائما بينهما لتخرجا من المفاوضات في الدوحة أو القاهرة منتصرتين.
وأضيف أنا أن ما حدث -بعد ذلك- أنهما لم تخرجا منتصرتين. حققت كل من قطر ومصر إنجازا رائعا في المفاوضات من أجل إيقاف الحرب.
الحرب هي السياسة بوسائل خشنة، ولكل حرب نتيجة سياسية، وحرب طوفان الاقصى ليست استثناء، لكن السياسة العربية منذ كامب ديفيد تخذل السلاح وتمشي على طريق السادات بعد حرب أكتوبر العظيمة.
موقف الدفاع الصارم عن سيادة مصر والأردن من مخططات التهجير للفلسطينيين موقف صحيح مائة بالمائة، لكنه موقف دفاعي لا يعكس التغير في موازين القوي بعد طوفان الأقصى.
الخطأ الاستراتيجي الثاني لبعض النظم العربية أنها تعاملت مع طوفان الأقصى باعتباره “أزمة وليست فرصة، ومحنة وليس منحة” وصار الهدف الأساسي لها هو وقف التصعيد، حتي لا يحدث عدم استقرار داخلها بينها وبين الشعوب.
هكذا تستمر النظرة الساداتية والنظرة بعد أوسلو.
المصيبة الأكبر هي في الجهة الأكثر تأثيرا على إسرائيل، وهي الضفة الغربية والقدس، المشبَّعة بروح المقاومة، لكن نظام أوسلو هناك لم يسمح لها بالاشتعال، والتزمت السلطة الفلسطينية بالخطة الأمريكية في كبح جماح الضفة. الأخطر أن العرب لم يسمحوا بدخول قطعة سلاح واحدة للمقاومة تعويضا عن خسائرها، بينما الجسر الجوي بين أميركا وإسرائيل لم ينقطع. الرأي العام العالمي مختلف عنه في بلادنا العربية، فهنا مساحة الحرية تكاد تكون معدومة.
بعد السابع من أكتوبر صارت الحركات غير الحكومية تتصدر المشهد في الخارج. انتهي الحديث عن الإرهاب، وفشلت كل الجهود الأمريكية والإسرائيلية في وصم حماس بالإرهاب، أو ربطها بداعش والقاعدة، ونجحت وسائل التواصل الاجتماعي في دحض كل ما رددوه من أكاذيب عن حماس، مثل قطع رءوس الأطفال واغتصاب النساء وغير ذلك، فالحقيقة لن يعد ممكنا تغييبها.
يستمر الحديث عن موقف أردوغان وكيف تغيَّر، وأثر قرارات محكمة العدل الدولية باعتبار ناتنياهو مجرم حرب وغيره، حتى نصل إلى الختام وكيف لم ترضخ المقاومة لكل مقترحات التسوية الأمريكية، ولم ترفع الراية البيضاء، لأنها بين هدفها أو الموت بكرامة، ورأينا ذلك في اتفاق وقف إطلاق النار الأخير.
بعد أن تنتهي من الكتاب تكتشف أن ما جرى من إيقاف إطلاق النار برعاية مصرية وقطرية وأمريكية، وهو ما حدث بعد ظهور الكتاب بأيام، كان معبرا عن كل ما مضى من عالم جديد يتشكل، ستبدأ فيه إسرائيل بالضياع.