ربما يكون من الأسهل إلقاء التهم على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بخصوص اقتراحه بتهجير فلسطينيي قطاع غزة، وإخراجهم من أرضهم إلى الدول المجاورة، خاصةً مصر والأردن؛ بل ويكون الأكثر سهولة محاولة سب ترامب، ووصفه بعدد من السمات التي يتسم بها حقا؛ إذ يكفي أن نقول إنه يُمثِّل الوجه البشع للقيم الغربية، بكل ما تحمله من إقصاء وعنصرية قبيحة تجاه للآخر.
لكن المنطقي، أن نحاول تحديد دوافع ترامب من اقتراحه هذا؛ ليس فقط لأنه يمس الأمن القومي لدولة بحجم مصر.. ولكن أيضا لأنه أحد أكثر السيناريوهات تعقيدا وحساسيةً، لما ينطوي عليه من تبعات خطيرة على الاستقرار الإقليمي والدولي.
ولعل الأمر الغريب والمثير في آن، هو إصرار الرئيس الأمريكي على اقتراحه؛ إذ قال -الجمعة 7 فبراير- إنه ليس في عجلة من أمره؛ لتنفيذ خطته للسيطرة على قطاع غزة وإعادة تدويره، مؤكدا للصحافيين في البيت الأبيض “لسنا في عجلة من أمرنا بشأن ذلك”.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها ترامب عن غزة، من وجهة نظر “أحد سماسرة سوق الاستثمار العقاري” ففي أكتوبر من العام الماضي، قال في مقابلة إذاعية “إن غزة قد تكون أفضل من موناكو، إذ أُعيد بناؤها بالطريقة الصحيحة”. والطريقة الصحيحة -قطعا- هي تلك التي تلتقي مع المصالح الأمريكية، وأهدافها في المنطقة العربية.
لكن التساؤل الأهم، ما الدوافع الأمريكية في السيطرة على قطاع غزة؟
يُمكن تحديد تلك الدوافع في ما يلي:
– تحقيق أمن إسرائيل وتعزيز العلاقات معها؛ إذ إن أحد أهم الدوافع التي قد تقف خلف هذه الخطة هو تعزيز أمن إسرائيل. غزة باعتبارها منطقة تحت سيطرة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، تشكِّل تهديدا دائما لإسرائيل. ومن خلال تهجير الفلسطينيين من القطاع، يمكن تقليل هذا التهديد وتخفيف الضغط الأمني عن إسرائيل، التي تعاني من الهجمات الصاروخية من غزة على مدار السنوات الماضية.
أضف إلى ذلك، أن إدارة ترامب تعتبر من أكثر الإدارات الأمريكية الداعمة لإسرائيل، حيث اتخذت عدة خطوات مهمة لتعزيز هذه العلاقة، من بينها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وكما يبدو، تأتي خطة التهجير ضمن سياق دعم المصالح الإسرائيلية بشكل غير مسبوق، ما يعكس سياسة ترامب الواضحة في المنطقة العربية، ومحيطها الشرق أوسطي، التي ترتكز على تأمين إسرائيل واستقرارها، على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية.
– تغيير التركيبة الديموغرافية وإضعاف القوى الفلسطينية المقاومة؛ حيث يبدو أن الخطة يمكن أن تكون جزءا من استراتيجية طويلة المدى، تهدف إلى إضعاف القوى الفلسطينية المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما.
والواضح أن تهجير الفلسطينيين من غزة؛ يعني تدمير البنية الاجتماعية والسياسية التي تستند عليها هذه الحركات؛ وبالتالي تقويض قدرتها على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
هذا فضلا عن أن تهجير الفلسطينيين؛ يمكن أن يؤدي إلى تغييرات ديمغرافية كبيرة في قطاع غزة، ما يسهم في تغيير الخريطة السياسية هناك. كما أن هذه الخطوة يمكن أن تكون جزءا من خطة أوسع تهدف إلى إنهاء حل الدولتين، واستبداله بحلول أخرى تتماشى مع الرؤية الإسرائيلية والأمريكية في التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.. واقعيا.
– استغلال الوضع الإنساني وتعميق الانقسام الفلسطيني؛ حيث يعتمد ترامب في اقتراحه على استغلال الوضع الإنساني الصعب في غزة.. فالظروف الإنسانية المتدهورة في غزة، بما في ذلك الحصار الإسرائيلي المستمر، ونقص الموارد الأساسية مثل الماء والكهرباء، قد تسهِّل تنفيذ خطة التهجير، أو الخروج الإرادي من قبل بعض الفلسطينيين في قطاع غزة.
أيضا، من المرجح أن تسهم هذه الخطة في تعميق الانقسام الداخلي الفلسطيني، خاصةً بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحركة حماس التي تسيطر على غزة. ويمكن أن يؤدي هذا المخطط إلى تصاعد الخلافات حول كيفية مواجهة المخاطر الجديدة، التي تتهدد القضية الفلسطينية.
– تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني؛ فمن الواضح أن تهجير الفلسطينيين من غزة قد يؤدي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي والثقافي الفلسطيني. فالفلسطينيون الذين يعيشون في غزة منذ عقود، لديهم روابط عائلية واجتماعية وثقافية قوية في القطاع؛ ومن ثُمَّ فإن أي محاولة لترحيلهم ستؤدي إلى تدمير هذه الروابط، بما يُساهم في تفكيك القاعدة الاجتماعية لقوى المقاومة الفلسطينية، على الأقل في غزة.
كذلك، في ظل هذه الخطة، ستكون السلطة الفلسطينية تحت ضغط كبير للرد على هذه التطورات. إذ ستجد هذه السلطة نفسها أمام تحديات جديدة، تتعلق بقدرتها على حماية حقوق الشعب الفلسطيني، والبحث عن حلول سياسية ودبلوماسية للحفاظ على حقوق الفلسطينيين في أرضهم.
– الضغط الاقتصادي على مصر والأردن؛ إذ إن مصر والأردن ستواجهان ضغوطا اقتصاديةً هائلةً إذا نُفِّذَت هذه الخطة. هاتان الدولتان تعانيان بالفعل من مشاكل اقتصادية كبيرة، واستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين سيزيد من تلك الأعباء؛ فهما -في هذه الحال- قد تحتاجان إلى دعم مالي دولي لتلبية احتياجات اللاجئين الجدد، وهو أمر قد يؤدي إلى مزيد من التوترات في العلاقات الدولية.
ولكن، في ظل الرفض المصري والأردني، من حيث إن مصر والأردن هما الدولتان اللتان تقعان في قلب هذا المخطط، ولكنهما ليستا مستعدتين لاستقبال مئات الآلاف من الفلسطينيين. فمصر، التي تعتمد على الاستقرار الداخلي والتوازن السياسي، فإن استقبال أعداد كبيرة من الفلسطينيين يمكن أن يثير توترات داخلية ويشكل ضغطا اقتصاديا وأمنيا كبيرا.
أما الأردن، الذي يحتوي بالفعل على نسبة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، فإنه سيواجه تحديات هائلة في حالة تنفيذ هذا المخطط؛ إذ إن أي زيادة في عدد اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، ستؤدي إلى توترات اجتماعية واقتصادية وربما سياسية.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن خطة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، تُمثِّل تحديا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا هائلا للمنطقة. على الرغم من أن الخطة تأتي بدوافع أمنية وسياسية، فإن تداعياتها ستكون كارثية على المستويات الإنسانية والإقليمية. والحل الصحيح، هو رفض هذه الخطة تماما، كما فعلت مصر.. وفعل الأردن.