لعل ما يمكن ملاحظته.. عبر آيات التنزيل الحكيم بخصوص الحوار، أن القرءان الكريم قد أولى مسألة الحوار أهمية بالغة؛ وذلك إلى الحد الذي لم ينظر فيه إلى الحوار كـ”وضع مقبول”، و”شأن مطلوب” فحسب؛ بل ذهب إلى أبعد وأعمق من هذا، واعتبر أن الحوار وسيلة قوية لاستحضار العقل؛ هذا فضلا عن اعتباره منطلقا داعما لـ”الحركة الاجتهادية” في الفكر الإنساني، وأرضية مشتركة لـ”الحركية المجتمعية” في المسائل الاختلافية بين الناس.
بعبارة أخرى، لقد خرج الحوار في القرءان الكريم عن حدود كونه وضع مطلوب، ليبلغ مستوى السمة الإنسانية، التي لا يمكن تفكيكها عن الحياة الدينية و/أو المادية؛ إلى الدرجة التي يمكن معها اعتبار أن “القرءان كتاب حوار”.
نقول هذا، لمن يزعم أنه لا مجال للعقل والحوار في الإسلام؛ وأن السابقين من المفسرين والفقهاء، قد قالوا كل شيء.. وهذا تحديدا ليس عندنا بشيء؛ ولمن يرفض عليه بالتدبر في آيات التنزيل الحكيم عموما، وفي الآيات الدالة على الحوار بشكل خاص.
وسيلة الإقناع
من هنا، يمكن ملاحظة أن كافة القضايا التي دعا إليها التنزيل الحكيم، كان الحوار هو الوسيلة المُثلى في الإقناع بها؛ وهو ما يتبدّى بوضوح في قضايا من قبيل قضايا التوحيد والإيمان والبعث والنشور والنبوة والقرءان ذاته.. وغير ذلك من قضايا، كان الحوار هو وسيلة الإقناع بها.
وقد سلك التنزيل الحكيم طُرقًا متعددة، في إثبات أنه من عند الله سبحانه وتعالى؛ فكان الحوار الإلهي مع “الناس” مثلما كان مع الملائكة والنبيين والشيطان أيضا.
ولعل الوعد الإلهي واضح في هذا الشأن؛ حيث يقول سبحانه: “سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” [فصلت: 53].
هذا الوعد الإلهي ينبني على أن الله تبارك وتعالى “حق”، وأن القرءان الكريم “حق” لأنه من عنده سبحانه؛ وهو ما يتضح من خلال التأكيد: “حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ”. إذ الحق هو “الشيء الواضح الثابت الذي لا يتغير”؛ بل وأنه الأصل الذي قامت عليه أمور الخلق كلها. ثم يأتي الاستفهام الدلالي: “أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” ليؤشر إلى أن دلالة كونه عزَّ وجل “شَهِيدٌ” على الأشياء، أنه “خلق الدلائل عليها”. والأهم، أن الإجابة على هذا الاستفهام الدلالي، لابد أن تتمثل في الاكتفاء به سبحانه “شهيدًا” على الأشياء والأحداث وقت حدوثها ومكان حدوثها؛ فهو سبحانه “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ “.
يتبدّى ذلك بوضوح، عبر التعريف الإلهي لـ”الذات الإلهية”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ” [الحشر: 22].. وفي قوله سبحانه: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ” [الرعد: 9].. وفي قوله تعالى: “عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ” [المؤمنون: 9].. وفي عزَّ من قائل: “ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ” [السجدة: 6].. وفي قوله عزَّ وجل: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [التغابن: 18].
طرق الإثبات
أما عن الطُرق التي وردت في القرءان لإثبات أنه من عند الله.. فإن من بينها: الرد على المُنكرين؛ أي منكري الرسالة والرسول كليهما.. فقد تجلّى ذلك في نفي وجود طرف بشري يُعلِّم الرسول عليه الصلاة والسلام، كما زعم بعض مُشركي وكُفار قريش؛ وذلك كما في قوله عزَّ وجل: “وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ” [النحل: 103]. والملاحظ أن التنزيل الحكيم لم يكتف بالنفي، وإنما قدَّم الدليل والحجة على خطأ ما يقولون به؛ إذ يؤكد على الفارق الواضح في “اللسان”، بين “لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ”، أي يميلون إليه وينسبون إليه أنه يُعلِّم رسول الله، وبين هذا اللسان القرءاني، الذي هو “لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ”.
وهنا، لم يأت الذكر الحكيم على لفظ “عجمي”، لأن العجم جنس يُقابل العرب، وقد يكون من العجم من يُجيد العربية الفصحى، مثل “سيبويه” كواحد من أمثلة عديدة؛ لكنه أتى على ذِكر مصطلح “أَعۡجَمِيّٞ”، للدلالة على “من لا يُفصح ولا يُبين، ولا يكاد أن ينطق العربية، حتى وإن كان عربيا”.
ليس هذا فقط، ولكن يأتي الحوار الإلهي أيضا مع مُنكري الرسالة والرسول كليهما، في موضع آخر.. لنفي وجود طرف بشري يُعلِّم الرسول؛ وهنا، يأتي السياق القرءاني دالًا، ليس فقط على نفي ما يزعم البعض من مُشركي وكفار قريش؛ ولكن أيضا على النسق القرءاني في الحوار.. حتى مع المختلفين، بل والمُشككين. يقول تعالى: “وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا” [الفرقان: 5]. إلا أنه، في هذا الشأن، اختلف الرد القرءاني، ليس بتقديم الحجة على اختلاف “اللسان”؛ ولكن وهذا هو الأهم، بأنه أي القرءان الكريم، “إنزال” من عند الله تبارك وتعالى.. إذ تأتي الآية الكريمة التالية مباشرة للتأكيد على ذلك، في قوله سبحانه: “قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا” [الفرقان: 6].
وفي موضع ثالث، يأتي الحوار الإلهي، كذلك، في الإطار نفسه، الذي ينفي فيه أن يكون القرءان الكريم هو محض “افتراء” من محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام؛ فيقول عزَّ وجل: “وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ إِفۡكٌ ٱفۡتَرَىٰهُ وَأَعَانَهُۥ عَلَيۡهِ قَوۡمٌ ءَاخَرُونَۖ فَقَدۡ جَآءُو ظُلۡمٗا وَزُورٗا” [الفرقان: 4]. وهنا لنا أن نُلاحظ كيف أن السياق القرءاني في سورة “الفرقان”، كان قد جاء بالرد على هذا الزعم بأن القرءان “إِفۡكٌ ٱفۡتَرَىٰهُ” [الفرقان: 4]، أو أنه “أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ” [الفرقان: 5]؛ وذلك في قوله تعالى: “قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ” [الفرقان: 6].
إلا أن الحوار الإلهي مع المُشككين، لم يتوقف عند هذا الحد؛ ولكنه أضاف في موضع آخر التأكيد على أن “الافتراء أمر يُلزم صاحبه ولا يتعداه”، كما في قوله سبحانه وتعالى: “أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَيۡتُهُۥ فَعَلَيَّ إِجۡرَامِي وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ” [هود: 35].
وللحديث بقية.