عندما تقرأ قصيدة للشاعر محمد سادات التوني، الذي صدر ديوانه الأول “في سُمك خوصة” عن دار المحرر في الربيع قبل الماضي، والذي وصل للقائمة الطويلة لجائزة (أبو القاسم الشابي) التونسية العريقة خريف 2024- عليك أن تنتبه جيدا لرؤاك المستقرة عن العالم.. ربما يُزيح الشاعر -من خلال قصيدته- غشاوة صادقت عينيك زمنا، أو يمنحك كشفا يبعث فيك دهشة غابت لسنين.
التوني دارس القانون والمشتغل به، يكتب قصائده بوعي نافذ يجرِّد الثوابت، ويعيد تشكيل مفاهيم اكتسبت رسوخا زائفا بفعل عوامل عديدة؛ متخففا من قيود الشكل، والحمولة الزائدة للغة؛ أيا كانت المغريات لعرضها في متن قصيدته.
بينوكيو – كما هو معلوم- هو شخصية خيالية شهيرة، ظهرت لأول مرة في رواية “مغامرات بينوكيو” التي كتبها الكاتب الإيطالي كارلو كولودي عام 1881. وهو في الأصل دمية خشبية على شكل صبي، صنعها النجار جيبيتو.
على نحو ما تتوَّلد لدى بينوكيو الرغبة في أن يصبح طفلا حقيقيّا. يمر بسلسلة من المغامرات، ويتعرض لكثير من المشاكل بسبب كسله وعدم طاعته، ويكتشف أن أنفه يطول مع كل كذبة جديدة يكذبها؛ لكنه يتحول في نهاية القصة إلى طفل حقيقي بعد أن وعى الدرس، وصار صادقا مجتهدا مطيعا لجيبيتو؛ بفعل سحر الجنية الزرقاء الطيبة.
انتشرت قصة بينوكيو انتشارا واسعا، وتحولت إلى عدد من الأعمال الفنية في السينما والمسرح، وصار أمثولة تُذكر للتنفير من الكذب.
لكن التوني يرى بينوكيو من جانب آخر لم ننتبه إليه من قبل.. لم يصنعه النجار جيبيتو ليكون له ابنا؛ بل هو حيلة اصطنعها الأب مواساة لصغيره المتألم:
بينوكيو كان في الحقيقة حيلةً
رايةً ثبَّتها أبٌ مكلومٌ
فوق صدرِ صغيرِه
انظرْ يا بنيّ
هذه الساقُ المرنةُ لبينوكيو
هي طرفٌ صناعيٌّ.
لا يتعلق الأمر هذه المرّة بأنف الدمية؛ بل بساقه “المرنة” القادرة على الحركة، والتي تحمل عزاء للصبي الذي فقد ساقه، وُحرم من اللعب والانطلاق والركض مع أترابه.. الأب “المكلوم” أوجد بينوكيو للتسرية عن صغيره، وثبّته فوق صدر الطفل؛ ليكون له صديقا “مماثلا” ذي ساق خشبية؛ حتى إذا تسابقا كانا كُفُأين!
انظرْ
أنتما صديقان
فولةٌ وانقسمتْ نصفين
ركلتما بالأطراف الصناعية كُرةَ المحنةِ
صد رد.
يُنشئ الأب عالما متكاملا لصغيره؛ مليئا بالبهجة.. مفعما بالتحدي بركل “كُرة المحنة” التي ستبتعد كثيرا بقوة تلك “الأطراف الصناعية”. كما أنهما سيتبادلانها باستمتاع “صد رد” كما في اللعبة الشهيرة التي يمارسها الصغار في أزقة الأحياء الفقيرة بفرح عارم.
حرثتُما هذه الأرضَ الرمليةَ باللعب
خطوطًا منحنيةً ومتقطعةً ومتشابكةً
لو قُدِّرَ لها أن تقول جملةً
فإنها ستكتفي بعلامة تعبير
على هيئة ابتسامة سَمْحَة.
لعب محموم لا يتوقف يعيد الحياة لروح أجدبها الحزن، يصيغ لها خطوطا جديدة على كل شكل.. براح امتنان وشكر، بعد طول معاناة، وابتسامة تمثل.. فتزيح حائطا من الكآبة.
ماذا تبقى إذن
كلُّ شيء تمام
غير أن عكازين يرتكنان خلف الباب
كل شيء تمام
غير أن الأرض تميلُ
يعرف الابنُ ذلك عن ظهرِ قلب
ويدفن هذه المعرفة
يدفنُها في عينيه وهو يثبتُهما بعيدًا
يتأكد الأب أن الأمور صارت على ما يرام، يُقنع نفسه أنه نجح في مهمته ” كلُّ شيء تمام” لكن الحقيقة التي صارت حادة أكثر، وجارحة جدا وماثلة بفتور في مخيلة الصغير.. أن لا شيء تغيّر، وأن كذبة الأب صارت أفدح -ربما- من كل أكاذيب بينوكيو؛ لأن الأرض ما زالت تميل تحت القدم الواحدة.. يقين صادم لا يردُّه حيلة أبٍ مكلوم.
يقبضُ على الساق الصناعية
يثبتها في المحور المغروز في جذع الفخذ
بعرجةٍ يمشي
يضغطُ بالساق السليمة على الأرض
ضغطةً بعد ضغطةٍ
من بعيد ظلٌ ينقبضُ ويتمدَّدُ
مثل جنينٍ في رُحُومَة الماء
ضغطةً بعد ضغطةٍ
يفعلُها أصدقاءُ طريق الاختبار
بسيقانهم الصناعية وعكائزهم في المكانِ المَعطوبِ
في مَهمَّةٍ نبيلةٍ
على طرفِ الميلِ
يعدلون الأرضَ.
يفطن الصغير إلى أن الحل لا يكمن في الهرب؛ بل في المواجهة.. في تحمّل الألم ومصاحبته، لا في الخدر اللذيذ الذي تصنعه الأوهام، وتبدده القسوة.. في الاقتحام الشجاع مع رفاق العجز الذين سيصنعون سويا كمالا يناسبهم.. يغيرون به أطراف معادلة الحياة التي لا تعطي بالسّويَّة.. “يعدلون الأرض” بملحمية فاتنة تقصي جمال الكمال المُدَّعى، وتمنح “المُمْتَحَنِيْنَ” حقهم في لعب أدوار البطولة باقتدار.
بينوكيو التوني أكثر إلهاما من بينوكيو كارلو كولودي.. فهو ليس أمثولة للوعظ الأخلاقي؛ ولا أداة تسرية ومواساة فقط.. لكنه حالة من المكاشفة.. نستطيع من خلالها إعادة النظر في ذواتنا عبر بصيرة، لا “تدفن المعرفة” إلا لتستنبت منها أفقا متجددا للمحاولة المستمرة لدحر الزيف، الذي صار كساء كل شيء في زماننا.