الحوار ظاهرة إنسانيّة، وهو أسلوبٌ يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في رأيه قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره. و”الحوار” في اللسان العربي، من “حوُر” وهو “الرجوع والتردد بين شيئين” والحَوْر “النقصان بعد الزيادة، لأنه رجوع من حال إلى حال”.
بناءً على ذلك، لا بد أن يتسم الحوار بطابع “العقلانية”، أي الاعتماد على العقل وتطبيق المقدمات المنطقية السليمة، سواء في ما يتعلق بتقديم الفكرة والتدليل عليها، أو في ما يختص بإمكانية قبول ما يطرحه الطرف المُقابل، وتحديدا إذا كان يستند إلى العقلانية والحجة القوية والسليمة.
مبدأ العقلانية
مما يؤكد مبدأ العقلانية في الحوار، أن الحوار في القرءان الكريم يعتمد على العقل والمنطق، ولا يتأثر بأي عوامل أخرى خارج هذا المبدأ.
ولعل الأمثلة التي وردت في التنزيل الحكيم كثيرة ومتعددة..
من هذه الأمثلة، الحوار الإلهي مع نبي الله إبراهيم عليه السلام.. وفي ذلك، يأتي قول الله تبارك وتعالى: “وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ” [البقرة: 260]. وهنا، يبدو أن نبي الله إبراهيم عليه السلام يُريد التحاور ضمن قواعد العقل والمنطق، ويرفض وجود أي مؤثر آخر غير العقل.
وكما نلاحظ، فإن هذا الحوار الإلهي مع نبي الله إبراهيم، يؤكد على مشروعية الحوار، وأن الحوار هنا، هو شكل من أشكال الاستدلال التوضيحي؛ إذ كان مضمون الحوار بين الله تعالى وإبراهيم يتعلق بـ”كيفية إحياء الموتى”، بمعنى أن الاستدلال يختص بـ”الاطمئنان”، وليس بـ”الإيمان”: “قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ”؛ أي الاطمئنان إلى أن الله سبحانه سوف يستجيب لطلب إبراهيم، في أن يريه هذه الكيفية.
أيضا، من الأمثلة التي وردت في التنزيل الحكيم للدلالة على مبدأ العقلانية، يأتي الحوار الإلهي مع نبي الله نوح عليه السلام. وفي ذلك يأتي قول الله سبحانه: “وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٭ قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 45-46]. في هذا الحوار، بين المولى سبحانه وتعالى ونوح عليه السلام، الذي يُطلق عليه “حوار الاستجارة”، لنا أن نُلاحظ أن نوح كان يملك المُبرر طلبا لنجاة ابنه من الغرق، لأنه من أهله كما كان يعتقد نوح “إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي”. إلا أن الله تبارك وتعالى حاور نوح، ليُبين له الحق والصواب “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، ومؤكدا سبحانه، الحيثية في عدم استجابة نداء نبيه عليه السلام “إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”.
عمل غير صالح
وهنا، نود التأكيد على اختلافنا مع ما يطرحه البعض من المُفسرين، حول التعبير القرءاني “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، ومنهم الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله، بأن هذا التعبير يدل على “عمل ابن نوح”، أي إن “عمل ابن نوح عمل غير صالح”، وذلك اعتمادا على تخريجة مفادها “إن بنوة الأنبياء ليست الدم، وإنما العمل والاتباع”، ولأن عمل ابن نوح غير صالح فهو ليس من أهله.
وفي نظرنا، فإن مثل هذا القول ليس عندنا بشيء..
إذ لنا أن نُلاحظ الحرف “إِنَّهُۥ” الذي ورد مرتين متتاليتين؛ الأولى “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ”، والثانية “إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”؛ وهما جملتان متتاليتان منفصلتان، ليس بينهما أي من حروف العطف، للدلالة على أهمية التأكيد على “عدم صلاحية الابن” ليكون من أهل نوح عليه السلام، وليس على “عدم صلاحية عمله”. ولنا، دليلا وتأكيدا على ذلك، أن نتأمل قوله عزَّ من قائل: “ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ” [التحريم: 10] إذ عبر تأمل هذه الآية الكريمة، وتدبُّر ألفاظها، يمكن تصور دلالة المصطلح القرءاني “فَخَانَتَاهُمَا”.
ولذلك، كان من المنطقي أن يأتي السياق القرءاني لهذه الآية الكريمة، في الآية التالية مباشرة، مُناقضا لكل من “ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ”؛ حيث يقول عزَّ وجل: “وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِي عِندَكَ بَيۡتٗا فِي ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ” [التحريم: 11]. بل، لنا أن نتأمل التعبير القرءاني “ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا”، الذي ورد في الآية التالية مباشرة، في قوله تعالى: “وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ” [التحريم: 12]. ومن ثم، ففي حال لاحظنا “التشابك الدلالي” بين مصطلح “الخيانة” في التعبير القرءاني “فَخَانَتَاهُمَا”، وبين مصطلح “الإحصان” في التعبير القرءاني “ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا”، لنا أن نستدل على دلالة التعبير القرءاني “إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”.
أيضا كان من المنطقي -من جانب آخر- أن يؤكد سبحانه وتعالى في حواره مع نوح “فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 46] إذ لنا أن نتأمل “دلالات” النصيحة الإلهية لنبي الله نوح “إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ”.. وبالتالي جاء رد نوح عليه السلام، كما في قوله تعالى: “قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَيۡسَ لِي بِهِۦ عِلۡمٞۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِي وَتَرۡحَمۡنِيٓ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ” [هود: 47].
فماذا إذن عن الحوار الإلهي مع إبليس؟
المثير في إطار مبدأ العقلانية في الحوار، والذي يعنى إن الحوار في القرءان الكريم يعتمد على العقل والمنطق، ولا يتأثر بأي عوامل أخرى خارج هذا المبدأ.. أن المبدأ يسري -في الوقت نفسه- على الحوار الإلهي مع إبليس بخصوص السجود لآدم عليه السلام.. كيف؟
للحديث بقية.