تعدّ زيارة قائد القيادة الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم)، الجنرال مايكل لانغلي، إلى الجزائر وتوقيع مذكرة تفاهم للتعاون العسكري بين البلدين، حدثا استثنائيا في العلاقات الثنائية، التي لطالما ارتكزت على مجالات محددة، مثل الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب. هذه الزيارة، التي جاءت في توقيت حساس، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن السياقات الإقليمية والدولية، التي تلقي بظلالها على منطقة شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
من المعروف أن الجزائر تعدّ واحدة من الدول المحورية في منطقة شمال أفريقيا، من حيث الموقع الجغرافي والثقل العسكري والسياسي. وتأتي زيارة لانغلي في وقت تعيش فيه الجزائر تحديات إقليمية متعددة، مثل تصاعد التوتر في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تنشط الجماعات الإرهابية؛ فضلا عن الأوضاع في ليبيا، والتي تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي الجزائري. كما أن الجزائر تواجه تحديات أخرى تتعلق بالعلاقات المتوترة مع المغرب بسبب قضية الصحراء الغربية، وهي قضايا قد تفسر جزئيا اهتمام الولايات المتحدة بتعزيز تعاونها العسكري مع الجزائر.
في هذا الإطار، قد تكون زيارة قائد “أفريكوم” جزءا من استراتيجية أمريكية أكبر تهدف إلى توسيع نفوذ الولايات المتحدة في شمال أفريقيا، وتحديدا في الجزائر، التي لطالما كانت حليفا غير تقليدي للغرب. فهي دولة تحافظ على علاقات تاريخية وثيقة مع روسيا والصين، ما يجعل أي تقارب مع الولايات المتحدة خطوة ذات أهمية استراتيجية كبيرة لكلا الطرفين.
دوافع متعددة
بالطبع تتعدد الدوافع في التقارب العسكري الأمريكي الجزائري، على أكثر من جانب..
فمن جانب، لا يمكن إغفال أن الولايات المتحدة تسعى إلى تعزيز وجودها العسكري والسياسي في منطقة شمال أفريقيا، التي تُعتبر منطقة تنافسية بين القوى الكبرى، مثل الصين وروسيا. وعلى الرغم من أن الجزائر تعتبر تاريخيا أقرب إلى روسيا من حيث التعاون العسكري، فإن الولايات المتحدة قد تكون رأت في الأحداث الأخيرة، خاصةً الفتور في علاقات الجزائر مع روسيا، وخلافها مع فرنسا، فرصة لتعميق شراكتها مع الجزائر. فالتنافس الروسي الأمريكي في المنطقة يدفع واشنطن لمحاولة كسب الجزائر كحليف استراتيجي جديد، خصوصا في ظل تزايد التوترات الجيوسياسية العالمية.
من جانب آخر، لا يمكن إغفال موارد الطاقة الجزائرية؛ فإلى جانب التعاون العسكري، من المحتمل أن تكون مسألة الطاقة أحد الدوافع الرئيسة للتقارب الجزائري الأمريكي. فالجزائر تُعتبر من أكبر مُصدّري الغاز الطبيعي في العالم، والولايات المتحدة تبحث عن شركاء جدد لتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية. وفي ظل تصاعد أزمة الطاقة في أوروبا، بعد الحرب الروسية الأوكرانية، قد ترى الولايات المتحدة في الجزائر شريكا مهما لدعم استقرار أسواق الطاقة العالمية.
من جانب أخير، تُعد الجزائر من أبرز الدول في مجال مكافحة الإرهاب، وقد حققت نجاحات كبيرة في هذا الصدد على مدار العقدين الماضيين. وهذا يجعلها شريكا مهما للولايات المتحدة، التي تسعى لتعزيز وجودها في أفريقيا، خصوصا في ظل توسع التنظيمات الإرهابية، مثل “داعش” و”القاعدة” في منطقة الساحل والصحراء. التعاون الجزائري الأمريكي في هذا المجال ليس جديدا، لكن توقيع مذكرة تفاهم للتعاون العسكري يعكس رغبة الجانبين في تعزيز هذا التعاون، ليشمل مجالات جديدة مثل التدريب العسكري وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
دلالات التفاهم
توقيع مذكرة تفاهم للتعاون العسكري بين الجزائر والولايات المتحدة، هو تطور جديد في العلاقة الثنائية، ويعكس الرغبة في تعزيز التعاون العسكري في مجالات متعددة؛ بمعنى أن هذه المذكرة تطرح عدة دلالات وأبعاد:
فمن المرجح أن تساهم مذكرة التفاهم في تحسين القدرات العسكرية الجزائرية، من خلال التدريب وتبادل المعلومات وتطوير نظم التسليح. ورغم أن الجزائر تعتمد بشكل كبير على الأسلحة الروسية، فإن التعاون مع الولايات المتحدة قد يفتح الباب أمام مصادر جديدة للتسليح والتكنولوجيا العسكرية.
أضف إلى ذلك، مسألة إعادة ترتيب التحالفات في منطقة شمال أفريقيا؛ إذ، من المُلاحظ أن التحالفات العسكرية التقليدية في المنطقة، تشهد إعادة ترتيب نتيجة للتغيرات الجيوسياسية. وعلى الرغم من أن الجزائر كانت تاريخيا تبتعد عن التحالفات العسكرية المباشرة مع الغرب، إلا أن الظروف الراهنة قد تدفعها لتغيير مواقفها بعض الشيء. فقد يكون هذا التقارب جزءا من محاولة الجزائر للحفاظ على توازن استراتيجي بين القوى الكبرى، حيث تسعى للاستفادة من التعاون مع الولايات المتحدة دون التفريط في علاقاتها مع روسيا والصين.
هذا، فضلا عن إشكالية التنافس مع المغرب؛ فالعلاقات المتوترة بين الجزائر والمغرب تخلق بيئة إقليمية معقَّدة، يمكن أن تُستغل من قبل القوى الكبرى. المغرب هو حليف تقليدي للولايات المتحدة وفرنسا، وتطبيع علاقاته مع إسرائيل أضاف بُعدا جديدا إلى المعادلة الإقليمية. ومن هنا، قد ترى الجزائر في تقاربها مع الولايات المتحدة وسيلة لتعزيز موقعها الإقليمي، ومواجهة التحديات التي تفرضها هذه العلاقات الجديدة.
تحديات واقعية
رغم الإيجابيات التي قد تحملها مذكرة التفاهم، فإن هناك العديد من التحديات التي قد تعيق تحقيق تعاون عسكري واسع النطاق بين الجزائر والولايات المتحدة.
من بين هذه التحديات، العلاقات الجزائرية الروسية؛ حيث تعتبر الجزائر من أهم حلفاء روسيا في المنطقة، والعلاقات العسكرية بين البلدين تعود لعقود من الزمن. الجزائر تعتمد بشكل كبير على الأسلحة الروسية، وتحافظ على علاقات وطيدة مع موسكو في مجالات أخرى كالتعاون الاقتصادي والسياسي. لذا، فإن أي تقارب مع الولايات المتحدة قد يضع الجزائر في موقف حساس، قد يتطلب منها موازنة دقيقة بين مصالحها مع كل من روسيا وأمريكا.
أيضا هناك -في ما يبدو- حساسية تاريخية لدى الرأي العام الجزائري تجاه التدخلات الأجنبية، خاصةً تلك القادمة من الدول الغربية. ومن ثم، فإن أي تعاون عسكري مع الولايات المتحدة قد يثير استياء بعض الأوساط السياسية والشعبية في الجزائر، خاصةً أن البلد لطالما تمسَّك بمبدأ عدم الانحياز في سياسته الخارجية؛ ناهيك عن موقفها المُعلن من إسرائيل، ومسألة التطبيع معها.
هذا، بالإضافة إلى مسألة التحالفات الإقليمية للجزائر؛ فالجزائر تنتمي إلى مجموعة من التحالفات التي قد تؤثر على قدرتها على التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، عضويتها في الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية تفرض عليها التزامات معينة، قد تكون عائقا أمام توسيع التعاون العسكري مع واشنطن.
في هذا الإطار.. يمكن القول بأنه في ظل التغيرات الجيوسياسية الراهنة، يبقى مستقبل التقارب الجزائري الأمريكي مرهونا بعدة عوامل داخلية وخارجية.
فالتقارب العسكري الجزائري الأمريكي يمثل خطوة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين، ولكن هذا التقارب يواجه تحديات عدة ترتبط بالتحالفات الإقليمية والدولية التي تلتزم بها الجزائر. بينما تسعى الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا، تبقى الجزائر حريصة على الحفاظ على توازن استراتيجي بين القوى الكبرى في علاقاتها الخارجية.