رؤى

عمير بن الحُمام.. ركضا إلى الله بغير زاد

إنه يوم بدر.. تلك المعركة الفاصلة التي أعزَّ الله فيها الإسلام وأهله، وأذل الشرك وأراذله.. المعركة التي دارت رحاها في مثل هذا اليوم، قبل 1444 عاما هجريا، وارتقى فيها من المسلمين أربعة عشر شهيدا، نالوا الدرجات العلا، بعد أن أبلوا بلاء حسنا، ودافعوا عن بيضة الدين، وفيهم نزل قول الله تعالى: “وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ” (البقرة:154).

وها هو عمير بن الحمام بن الجموح الأنصاري السلمي البدري، يضرب لنا أروع الامثلة في الزهد في الفانية والاشتياق للجنة والعمل من أجل نيلها، واللحاق بركب من اختصهم الله تعالى بها.

لا تعطينا المصادر معلومات كثيرة عن عمير. هو من بني حِرام بن كعب من الخزرج، أسلم قبل قدوم الحبيب محمد صلوات ربي وسلامه عليه إلى المدينة.. وعندما آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار.. آخى بينه وبين عبيدة بن الحارث، لكننا نستلهم من خلال مواقف الرجل شيئا من صفاته؛ إنه واحد من الذين وجدوا ضالتهم في الإسلام، وكأنهم قضوا أعمارهم – من قبله- في البحث عنه، وعندما هداهم الله إليه، ملأ عليهم حياتهم، وعَمُرَ به وجدانهم، فلم يشغلهم عنه شاغل.

كان لقرب عمير من النبي صلوات ربي وسلامه عليه، طوال الوقت هدف بالغ الأهمية، وهو ألا يفوته خير في دينه، يمكن أن يسبقه إليه أحد، فكان كلما دعا الرسول أصحابه إلى أمر، يبادر عمير، ويكون في أول الصف. إن فهمه للإسلام، وحبه للرسول جعله يرفض التواني أو أن يكون في المتأخرين.

وها هو عمير يوم بدر يقف بين يدي الحبيب، ويسمعه وهو يقول: “والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا ادخله الله الجنة” فيقول له عمير، وفي يده تمرات يأكلهن: “بخٍ بخٍ أما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟! فقذف التمر من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل”.

لعل هذا الشاب الجلد البطل لم يكن ميالا ذات يوم إلى تعقيد الأمور، إنه يحب الوصول من أيسر الطرق، وبتطبيق أيسر القواعد؛ لينال ما يبتغي دون كبير جهد.

إن عُميرا يدرك أن الجائزة ثمينة “إلا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة” وهو لذلك يتخفف في سباقه لنيلها، فلم يقعده مال أو ولد عن خوض غمار مضمار طلبها.. حتى تلك التمرات التي لا يستغرق أكلها بضع دقائق، لا تُعطّل رجلا مثل عمير عن نيل الشهادة.

هل كان عمير شاعرا أو محبا للشعر؟ يظل هذا الاحتمال قائما، إذ أنه في اندفاعه إلى القتال، سًمع يرتجز: “ركضا إلى الله بغير زاد، إلا التقى وعمل المعاد، والصبر في الله على الجهاد، وَكلُّ زادٍ عرضة النفاد، غير التُقَى والبر والرشاد”.

ما أجمل تلك الكلمات وما أروعها! وهي تُلخص فلسفة ذلك المقاتل النبيل في الحياة.. فهو وقد امتلأ قلبه إيمانا، لا يسعه إلا الركض وقد حمل من الزاد تقوى الله، وما أعده للقائه سبحانه وتعالى، وصبره على الجهاد ومشاقه، مع علمه أن ما تركه من متاع الدنيا؛ ابتغاء مرضاة الله، هو في الحقيقة عرض زائل، وأن ما ينفعه من التقى ووجوه الخير والحسن الاهتداء، هو ما حرص على حمله في الرحلة الطويلة.

إن إقدام عمير يوم بدر كان درسا عمليا لكل من شارك في تلك المعركة الخالدة، فكان بلاء كل من اقتدى به في ميزان حسناته، رضي الله عنه وأرضاه.

يروي أنس بن مالك رضي الله عنه قصة استشهاد عمير بن الحمام رضي الله عنه في غزوة بدر فيقول: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسَيْسَة (بسبس بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري) عينا (متجسسا) ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه (بعض نسائه كانت عنده)، قال: فحدثه الحديث، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فقال: (إن لنا طُلْبةً (شيئا نطلبه) فمن كان ظهره حاضرا (معه دابة) فليركب معنا)، فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة؟ فقال: (لا، إلا من كان ظهره حاضرا)، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه (أمامه)، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (نعم) قال: بخٍ بخٍ (كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟)، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: (فإنك من أهلها)، فأخرج تمرات من قرنه (جعبة السهام) فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل) رواه مسلم.

“لقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر أروع الأمثلة في البطولة والاستشهاد، وأثبتوا فيها وفي غيرها من مواقف وغزوات صدق إيمانهم، وحسن إسلامهم، وعظيم بذلهم وتضحياتهم، ويقينهم بما أعد الله لهم في الجنة، بحيث كان أحدهم يستطيل حياته الباقية، وإنْ لم يبق منها إلا لحظات يسيرة؛ تضحية بالنفس لنشر الدين القويم، وشوقا لما عند الله من النعيم المقيم، كما وقع مع عمير بن الحمام رضي الله عنه”.

رضي الله عن عمير وعن شهداء بدر.. أولئك الذين سطروا بدمائهم الذكية أول صفحات المجد والفخار لأمة سيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock