رؤى

الحوار القرءاني.. إبراهيم عليه السلام والملائكة

الحوار في القرآن الكريم، هو وسيلة هامة لإدراك المفاهيم والقيم الإسلامية. وقد استخدم القرءان الكريم الحوار في العديد من القصص والأحداث لتوضيح القيم الدينية والإنسانية. ومن أبرز الحوارات التي وردت في القرءان هو الحوار الذي دار بين نبي الله إبراهيم عليه السلام والملائكة، والذي يتناول قضية قوم لوط. هذا الحوار يتجلّى في سورتي “هود” و”العنكبوت”، ويكشف عن علاقة نبي الله إبراهيم العميقة برحمة الله وحبه للعدل والإحسان.

واللافت، أن الحوار في القرءان الكريم له أهمية كبرى، حيث يستخدم وسيلةً لتعليم الناس وإرشادهم. في قصة إبراهيم والملائكة، يُظهر الحوار كيف يمكن للأنبياء أن يجادلوا ويطلبوا الرحمة للبشر، وكيف أن الله، رغم قراراته النهائية، يستجيب لحواراتهم برحمة وعدل. هذه القصة تعلّمنا أن الحوار ليس فقط أداة للتواصل بين البشر، بل هو وسيلة للتفاعل مع القيم الإلهية وتحقيق التوازن بين الرحمة والعقاب.

إبراهيم والملائكة

تروي آيات التنزيل الحكيم حوارا بين إبراهيم عليه السلام والملائكة، عندما جاءوه ليبشروه بغلام عليم، وهو إسحاق عليه السلام، وكان ذلك بشرى عظيمة لإبراهيم وزوجته. ولكن ما إن بشروه، حتى أخبروه أيضا بأنهم مرسلون لهلاك قوم لوط؛ بسبب فاحشتهم وظلمهم. في هذا الحوار، يتضح قلق إبراهيم عليه السلام على قوم لوط، ومحاولته مجادلة الملائكة لتخفيف العذاب عنهم.

بخصوص البشرى، في سورة “هود”، يقول سبحانه وتعالى: “وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ ٭ فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ ٭ وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ” [هود: 69-71]. أما في ما يتعلق بـ”الحوار”، أو تحديدا “المجادلة” بين إبراهيم عليه السلام والملائكة، في ما يخص “قَوۡمِ لُوطٖ”، يقول سبحانه: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ ٭ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ ٭ يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ” [هود: 74-76].

وكما يبدو، من السياق القرءاني في هذه الآيات الكريمات، يعكس الحوار حرص إبراهيم عليه السلام على قوم لوط، وخوفه على مصيرهم. إذ إنه يعلم أن لوطا عليه السلام يعيش بينهم، ولذا كان يراجع الملائكة بشأن العذاب.

في هذا الحوار، يظهر أن إبراهيم كان يجادل الملائكة ليس بغرض رفض أمر الله أو التدخل في حكمه، ولكن بسبب رأفته ورحمته. إبراهيم كان نبيا رحيما، يعطف على الخلق ويأمل دائما في رحمة الله وهدايته. هذه المجادلة، تشير إلى محبة الأنبياء للبشر ورغبتهم في تجنيبهم العذاب، كما تعكس عظمة الله في الاستماع والتفاعل مع أنبيائه حتى في الأمور الكبيرة “يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ”؛ خاصةً أن أمر رب العالمين قد جاء “إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ”.

وقد تبين أمر رب العالمين، واتضحت ملامحه، في سورة “العنكبوت”؛ حيث يقول تعالى: “وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوٓاْ إِنَّا مُهۡلِكُوٓاْ أَهۡلِ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُواْ ظَٰلِمِينَ ٭ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطٗاۚ قَالُواْ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَن فِيهَاۖ لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ” [العنكبوت: 31-32].

هنا، فإن هذا الحوار هو مثال حيُّ على كيفية تعامل نبي الله إبراهيم مع قضية العذاب. فهو هنا أيضا يحاول أن يجد سبيلا لإنقاذ قوم لوط، أو على الأقل للتخفيف عنهم. إلا أن الملائكة ترد على إبراهيم بأنها تعلم تماما من في القرية “قَالُواْ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَن فِيهَاۖ”، وأن الله لن يعاقب المظلومين مع الظالمين “لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ”.

صفات إبراهيم

في آيات التنزيل الحكيم، يبدو أن إبراهيم عليه السلام كان يجادل الملائكة، لعل الله أن يؤخر العذاب عن قوم لوط. هذه “المجادلة” تعكس شخصية إبراهيم عليه السلام العطوفة والحريصة على هداية البشر. إبراهيم عليه السلام كان يأمل أن يتحسن حال القوم، أو أن يتوبوا قبل أن يحل عليهم العذاب. لقد كان يعتقد أن هناك فرصة لنجاتهم إذا ما أتيح لهم الوقت.

ومع ذلك، كان رد الملائكة حازما، إذ أكدوا أن قوم لوط قد تجاوزوا كل الحدود في الفساد والفاحشة، وأن العذاب قادم لا محالة “قَالُوٓاْ إِنَّا مُهۡلِكُوٓاْ أَهۡلِ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُواْ ظَٰلِمِينَ”. ومع ذلك، يظل الحوار بين إبراهيم والملائكة نموذجا عن الحوار البناء، الذي يهدف إلى تحقيق الرحمة والعدل، وليس تحدي حكم الله.

ولنا، هنا، أن نُلاحظ الحوار الإبراهيمي مع “الملائكة”، إضافة إلى حواره مع الله سبحانه وتعالى، الذي كنا قد تناولناه من قبل.. لنا أن نُلاحظ صفات النبي “إِبۡرَٰهِيمَ” عليه السلام، التي وردت “اثنتان” منها في سورتي “هود” و”التوبة”.

في سورة “هود”، يقول سبحانه: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ ٭ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ” [هود: 74-75]. هنا، لنا أن نلاحظ كيف أن إبراهيم عليه السلام حاول أن يُجادل “فِي قَوۡمِ لُوطٍ”؛ وفي هذه الحال، وردت الصفة المركبة “إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ”. ومن الواضح، أن الصفة “مُّنِيبٞ”، من الإنابة، هي صفة تجمع الصفة المركبة “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ”؛ إذ إن “حَلِيمٌ” من الحلم الذي هو من الأناة، أو التأني (التريث)، أما “أَوَّٰهٞ” من التأوه الذي هو من العجلة أو التعجل (التسرع).

وهذه الصفة المركبة “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ”، جاءت على الصيغة “أَوَّٰهٞ حَلِيمٌ”، وذلك في سورة “التوبة”، حيث قوله تعالى: “وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ” [التوية: 114].

وهنا، لنا أن نتأمل كيف أن التقديم والتأخير في مفردتي الصفة المركبة “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ”، لتُصبح على الصورة “أَوَّٰهٞ حَلِيمٌ”، إنما تأتي لتتناسب مع موقف النبي إبراهيم عليه السلام، في حالتين:

الأولى، الموقف من “قَوۡمِ لُوطٍ” الذي كان الجدال فيه لأجل “تأجيل العذاب”؛ لذا، غلب الحليم في إبراهيم على الأواه؛ ومن ثم، كان إبراهيم “حَلِيمٌ أَوَّٰهٞ” [هود: 75]. وكان الرد الإلهي على إبراهيم “يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ” [هود: 76].

الثانية، الموقف من “ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ” الذي كان فيه التعجل هو السمة الرئيسة؛ لذا، غلب الأواه في إبراهيم على الحليم؛ ومن ثم، كان إبراهيم “أَوَّٰهٞ حَلِيمٌ” [التوية: 114].

وهكذا.. فإن الحوار الذي دار بين إبراهيم والملائكة هو أحد الأمثلة البارزة في القرءان الكريم على الحوار الذي يجمع بين الرحمة والحزم. إبراهيم كان نبيا رحيما يحب الخير للناس، والملائكة كانوا رسلا ينفذون أمر الله بعزم. هذا الحوار يعكس قمة التواصل بين الخالق وأنبيائه، ويوضح أنه حتى في حالات العذاب، يكون هناك دائما مساحة للرحمة والعدل.

وفي نهاية الحوار، يتضح أن الله قد قرر إنزال العذاب على قوم لوط بسبب فسادهم وظلمهم؛ ومع ذلك، يُنجي الله لوطا وأهله إلا امرأته. هذا يوضح مبدأين أساسيين في آيات الله البينات: الرحمة والعدل؛ فرحمة الله تتجلى في إنقاذ لوط وأسرته، وعدله يتجلى في معاقبة الظالمين فقط دون غيرهم.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock