“ظُلم المصطبة ولا عدل المحكمة” مثل شعبي قديم، يعني القبول بحكم العرف مهما كان قاسيا على انتظار عدل القانون والمحكمة الذي قد يغيب لسنوات، في كثير من القرى والنجوع في مصر يُحكم بين الناس بالجلسات العُرفية، وحكم كبار القوم، ويُعاقب ويجرّس من يلجا للمحكمة والقانون؛ ولهذا يترضي بحكم المصطية أو بالحكم العرفي على أن ينتظر العدل من المحكمة والقانون ويخسر هيبته بين أبناء البلدة أو القرية، بالطبع كلها اجتهادات لتفسير هذا الموروث الممتد لمئات السنين في جذور مصر ونجوعها.
هذا المثل أو العُرف هو الخط الرئيس للعمل الذي تدور أحداثه -في دمنهور- لشخصيات من قرى مجاورة انتقلت للإقامة في المدينة، وحملوا معهم موروثهم وثقافتهم، ومن خلال هذه الشخصيات يتعرّض المسلسل للمساحة التي يتحرك فيها الناس بين القانون والعرف، حيث يصدر المجتمع وناسه أحكاما ظالمة، تكون أشد قسوة من القانون الوضعي، وكيف يتعامل معها الأبطال مرة بالاستسلام ومرة بالرفض وأخرى بالتحايل. منها مشهد البشعة الذي لجأ له حمادة “فتحي عيد الوهاب” بسبب شكه في وجود علاقة بين زوجته هند “ريهام عبد الغفور” وصديقه القديم حسن “إياد نصار” الكاذب النار سوف تحرق لسانه والصادق سوف ينجو!
تهرب هند مع حسن ظنًا منها أنها قتلت حمادة، وفي رحلة الهروب هذه نرى بانوراما كبيرة للمجتمع وشخصيات متعددة، يشرّحها العمل ويعرّيها هي وموروثها ومعتقدها القديم الذي تجاوزه الزمن، ومن خلفهم حمادة للانتقام منهم لرد كرامته وشرفه.
في البداية شعرت بالقلق عندما عرفت بانسحاب مؤلف العمل ومخرجه وإسناد العمل لمؤلف ومخرج آخر لاختلاف الرؤى والأسلوب، ولكن مع عرض الحلقات لم ألحظ أي اختلاف بينهم، وأعتقد أنه حدثت جلسة ما بينهم للتفاهم على الخطوط العريضة للعمل.
نجح مؤلفا العمل محمد رجاء وإسلام حافظ وقبلهم أحمد فوزي صالح صاحب القصة والمعالجة، في تشريح وتعرية المجتمع وأعرافه وشخصياته.. لا يوجد خير أو شر، قد تقف مع شخصية في موقف وترفضها في آخر، تتعاطف هنا وتكره هناك، مع كُتاب آخرين قد يقعا في فخ الميلودراما الفجة والتراجيديا التي قد تجد لها صدى عند قطاع كبير من الجمهور، لكن يحسب لمؤلفي هذه العمل أنهم قدما العمل بكل بساطة وسلاسة وأيضا واقعية شديدة دون إغراق في سوداوية هذا المجتمع.
لدينا نجوم كبار قدموا دروسا في فنون الأداء ريهام عبد الغفور، التي أثبتت أنها من أفضل الممثلات الموجودات على الساحة الآن، إن لم تكن أفضلهم على الإطلاق، ومعها بأستاذية شديدة وتألق كلا من فتحي عبد الوهاب، إياد نصار، توحد تام مع الشخصيات وفهم عميق لها، إحساس متدفق دون إفراط أو مبالغة، وعي تام بتفاصيل الشخصيات وأبعادها الثلاثة وما تحلمه بداخلها من تناقضات ومعتقدات وخوف من مجتمع أكثر تناقضا منهم، وتألق معهم فريق العمل “بسمة، أحمد عزمي، محمد علي رزق”
أجاد مخرجا العمل في اختيار فريق العمل وإدارتهم بشكل جيد، وقدّم صورة جيدة ناطقة بكل تفاصيل وأحاسيس الشخصيات، كما أجاد في اختيار أماكن التصوير خاصةً منزل حمادة وإخوته وأيضا باقي أماكن الأحداث، ما أضفى على الصورة واقعية ومصداقية شديدة.
ظُلم المصطبة عمل فني متكامل خرج ليعيش ويبقى. يعيش الإبداع ما دام حرا بلا قيود ولجان.