رؤى

حوار الأنبياء.. هود عليه السلام وحوار النُصح

من الحوارات القرءانية، التي تتناول مواجهة بين نبي أرسله الله بدعوة التوحيد والإصلاح، وقوم كذبوا رسالته ورفضوا الانصياع لأوامر الله، بالرغم من الأدلة والحجج التي ساقها لهم.. يأتي حوار نبي الله هود عليه السلام مع قومه “عاد”. قوم عاد كانوا من أكثر الأقوام قوة وبأسا في زمانهم، وقد أنعم الله عليهم بقوة البدن والقدرة على بناء الصروح العظيمة. إلا أن هذه النعم دفعتهم إلى الكِبر والطغيان، فعبدوا الأصنام وظلموا الناس، فكان نبي الله هود يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك الظلم.

وقد أرسل الله هودًا عليه السلام إلى قومه عاد لدعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالله، وترك عبادة الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم ويعكفون عليها. بدأ حواره معهم بتذكيرهم بنعم الله عليهم، وكيف أنه منحهم القوة والبنيان العظيم، مطالبا إياهم بتوجيه الشكر لله بدلا من الطغيان وظلم الناس.

أسلوب الحوار

بدأ نبي الله هود بدعوة قومه إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وبيّن لهم أن كل ما سواه من الآلهة التي يعبدونها ليست إلا افتراءً واختلاقا، ولا تستحق العبادة. يقول الله سبحانه وتعالى: “وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ” [الأعراف: 65]؛ ويقول سبحانه: “وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۖ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُفۡتَرُونَ” [هود: 50].

ومثلما كان نبي الله نوح عليه السلام يُحاول إقناع قومه بأدلة منطقية، مؤكدا لهم أنه لا يطلب منهم أجرا على دعوته، وإنما هو يُقدم لهم النُصح؛ كان أيضا نبي الله هود يحاول إقناع قومه بنفس الأدلة المنطقية؛ كما ورد على لسانه في قوله سبحانه: “يَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ” [هود: 51].

واللافت، في حوار هود عليه السلام مع قومه، أنه استخدم أكثر من أسلوب في محاولة إقناعهم؛ واحدة من أساليب الدعوة التي استخدمها هود هي تذكير قومه بالنعم الكثيرة التي أنعم الله بها عليهم، مثل القوة البدنية الهائلة، والمنازل الواسعة التي بنوها في الوديان والجبال. كان هود يحاول من خلال هذا التذكير بـ”ءَالَآءَ ٱللَّهِ”، أن يدفع قومه إلى التفكر في مصدر تلك النعم، وهو الله سبحانه وتعالى، الذي يستحق الشكر والعبادة. محاولة هود، هذه، تتبدى من خلال قوله سبحانه: “أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ وَزَادَكُمۡ فِي ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةٗۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ” [الأعراف: 69].

هنا، يُذَّكرهم هود بأنهم خلفاء في الأرض بعد قوم نوح، وأن الله زادهم قوة وبسطة في الأجساد، ما يجعلهم مسئولين أمام الله عن استخدام هذه النعم في ما يرضيه، لا في الطغيان والفساد. ولنا أن نُلاحظ، أن الذِكر قد جاء لـ”الإنذار” واتخاذ العبرة من قوم نوح، لأن هؤلاء هم أول قوم عُذِّبوا حين لم يؤمنوا وكذَّبوا دعوة نوح عليه السلام “لِيُنذِرَكُمۡۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ”.

إضافة إلى ذلك الأسلوب الذي استخدمه هود عليه السلام في “الترهيب”، فقد استخدام أيضا أسلوب “الترغيب” في حواره مع قومه؛ كما ورد في قوله تعالى: “وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ” [هود: 52].

دلالات الحوار

ضمن أهم دلالات الحوار بين نبي الله هود وقومه.. تأتي الجوانب التالية:

من جانب، على الرغم من الدعوة الصادقة التي قدمها هود عليه السلام، إلا أن قومه قابلوه بالتكذيب والسخرية. لقد كان تكبرهم وقوتهم المادية هما السلاحان الرئيسان في رفضهم لدعوته وإعراضهم عنها؛ بل، واعتبار هود “مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ”، واتهامه بأنه “فِي سَفَاهَةٖ”؛ كما في قوله تعالى: “قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦٓ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ” [الأعراف: 66]. وكما هو واضح فقد كانت اتهامات القوم لهود متعددة، ما بين الضلال “مجانبة الحق”، وبين السفاهة “الطيش وسخافة العقل”، وصولا إلى اتهامه بالكذب.

من جانب آخر، رغم هذه الاتهامات، إلا أن رد هود اتسم بالهدوء وتقديم الحجج المنطقية، بأنه لا يريد منهم جزاء ولا شكرا، وأنه فقط يبلغهم رسالة ربه، وأنه ليس إلا ناصحا أمينا. لم يكن لهود أي مصلحة دنيوية في دعوته لقومه، بل كان يريد لهم الخير والفلاح. ذلك، كما ورد في قوله عزَّ وجل: “قَالَ يَٰقَوۡمِ لَيۡسَ بِي سَفَاهَةٞ وَلَٰكِنِّي رَسُولٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٭ أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ” [الأعراف: 67-68]. وهنا، لنا أن نُلاحظ اختلاف السياق القرءاني في حوار نوح عليه السلام مع قومه، عن حوار هود.

ففي حوار نبي الله نوح، يقول عزَّ وجل: “أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمۡ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [الأعراف: 62]؛ هنا، جاءت النصيحة عبر التعبير بـ”الفعل”: “أَنصَحُ لَكُمۡ”، والفعل يدل على الاستمرارية والتجدد، بما يتناسب مع إلحاح وتكرار نوح عليه السلام في دعوته قومه ليلا ونهارا، وسرَّا وعلانية. أما في حوار نبي الله هود، يقول عزَّ من قائل: “أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ” [الأعراف: 68]. هنا، جاءت النصيحة عبر التعبير بـ”الاسم”: “نَاصِحٌ أَمِينٌ”، والاسم يدل على الثبوت، بما يؤشر إلى أن هود عليه السلام لم يُلحّ ولم يُكرر، مثلما كان عليه حال نوح عليه السلام.

من جانب أخير، مع استمرار عناد قوم عاد ورفضهم لدعوة هود، كما في قوله عزَّ وجل: “قَالُواْ يَٰهُودُ مَا جِئۡتَنَا بِبَيِّنَةٖ وَمَا نَحۡنُ بِتَارِكِيٓ ءَالِهَتِنَا عَن قَوۡلِكَ وَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ” [هود: 53].. مع هذا الاستمرار في العناد والرفض، لجأ هود عليه السلام إلى تحذيرهم من عذاب الله، وبيّن لهم أن الاستمرار في الكفر والفساد سيؤدي بهم إلى الهلاك؛ بل، وأن هذه التحذيرات آخر فرصة لهم للعودة إلى الله والتوبة من الفساد. يقول عزَّ من قائل: “قَالَ قَدۡ وَقَعَ عَلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ رِجۡسٞ وَغَضَبٌۖ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِيٓ أَسۡمَآءٖ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٖۚ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ” [الأعراف: 71]

لقد أوضح هود، هنا، أن ما سيأتي عليهم من العذاب هو عقاب من الله نتيجة إصرارهم على عبادة أسماء وأصنام لا سلطان لها، وأنه ينتظر معهم ما سيأتي من أمر الله، مشيرًا إلى أن نهاية كل منكرٍ للحق هي الهلاك. إلا أنه، لم يكتف بذلك، فقد أضاف إليهم “وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ”؛ وهو ما ورد في قوله تبارك وتعالى: “فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ” [هود: 57].

في هذا الإطار.. وبعد أن وصل بقوم “عاد” التكبر وعدم تركهم عبادة آلهتهم، كما ورد في قوله سبحانه: “قَالُواْ يَٰهُودُ مَا جِئۡتَنَا بِبَيِّنَةٖ وَمَا نَحۡنُ بِتَارِكِيٓ ءَالِهَتِنَا عَن قَوۡلِكَ وَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ” [هود: 53]؛ بل، وبعد أن وصلوا إلى درجة تحدي هود عليه السلام، كما ورد في قوله تعالى: “قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِنَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَحۡدَهُۥ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ” [الأعراف: 70].. هنالك، حقَّ عليهم الأمر الإلهي بـ”عَذَابٍ غَلِيظٖ”، كما في قوله عزَّ وجل: “وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ” [هود: 58]؛ وكما في قوله عزَّ من قائل: “فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَقَطَعۡنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۖ وَمَا كَانُواْ مُؤۡمِنِينَ” [الأعراف: 72]. أما فحوى ذلك “العذاب”، فقد ورد في قوله عزَّ من قائل: “وَأَمَّا عَادٞ فَأُهۡلِكُواْ بِرِيحٖ صَرۡصَرٍ عَاتِيَةٖ ٭ سَخَّرَهَا عَلَيۡهِمۡ سَبۡعَ لَيَالٖ وَثَمَٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومٗاۖ فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِيهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِيَةٖ” [الحاقة: 6-7].

ونكتفي، هنا، بالإشارة إلى أن هذه النتيجة المنطقية لهلاك قوم “عاد”، إنما كانت بسبب الإصرار على “عبادة ما وجدوا عليه آبائهم”، وعدم محاولتهم تحديثه وتنقيته مما يملؤه من ترهات وخزعبلات.

وللحديث بقية.

 

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock