في كتابها “أثقل من رضوى” تروي الكاتبة المصرية الراحلة الدكتورة رضوى عاشور موقفا تعرضت له أثناء توجهها إلى مقر عملها في إحدى الجامعات المصرية.
فوجئت الأديبة وأستاذة الأدب الإنجليزي الراحلة، كغيرها بأن طريقها مغمور بالمياه، لكن ما لفت نظرها هو هذا المشهد، لمن لم يقبلوا أن يعودوا أدراجهم وواصلوا المسير.
تصف الدكتورة عاشور المشهد وصفا بليغا كالتالي: “شباب وكهول، رجال ونساء، صبية وبنات، يتسلقون الجدار المائل قليلا إلى يسار مجري شارع لطفي السيد؛ ليكون طريقا موازيا وأكثر ارتفاعا، يقصدون تجاوز النفق من فوقه، قاصدين الجامعة أو ما بعدها.
من يصل إلى أعلى الجدار يثبت قدميه ويقف متوازنا يمد يديه للصاعد بعده، وصاعد ثالث يضع يديه على ظهر الصاعد الثاني، ما بين إسناد له كي لا ينزلق، ودفع لجسمه لتسهيل الصعود عليه، وهكذا دواليك، رجل بعد رجل، وامرأة بعد رجل أو امرأة. أما من وصلوا إلى الطريق العلوي، فقاموا بمهمتهم في جلب من يتلوهم، ثم يتحركون بحرص متجهين إلى سلم يهبط بهم إلى رصيف ملاصق لبوابة الجامعة”.
تعبّر الدكتورة عاشور عن إعجابها الشديد بالنموذج المشار إليه أعلاه بقولها: “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة, ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”.
أغلب الظن أن هذه الأكاديمية والأديبة المبدعة، لو كانت لا تزال تحيا بيننا الآن؛ لوجدت أن كلماتها البليغة تنطبق على ما حدث ويحدث على أرض قطاع غزة.
نعم، تدفع غزة من دمها يوميا ثمنا فادحا، ولكن ثمن تقديم نموذج بديل ومغاير، لا لما ألفته الأمة على مدار نصف قرن وأكثر من الزمان فحسب؛ وإنما لما اعتاده العالم أجمع.
ففي السابع من أكتوبر من عام ٢٠٢٣، أهدت غزة الأمة نموذجا كفيلا بدحض منطق “الهزيمة الحتمية” الذي انتهجته حكومات عربية عدة؛ مبررا لمسارعتها في التطبيع مع دولة الاحتلال، بدعوى أنها لا قبل لها بمواجهة جيش الاحتلال المدجج بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الأمريكية من سلاح.
دحض النموذج الغزاوي هذه الحجة عبر تقديم صورة مغايرة للمقاتل الفلسطيني وهو يقهر بإمكانيات بسيطة ومحدودة للغاية جند الاحتلال، ويقودهم مذلين مهانين منكسي الرءوس إلى الأسر.
ثم أبت غزة إلا أن تقدم نموذجا آخر للصمود، يضاهي نماذج تاريخية مشابهة مثل هانوي في فيتنام وستالينغراد في روسيا، نموذج مدهش يفوق الخيال لرقعة صغيرة المساحة من الأرض، يلقى عليها وعلى سكانها نحو ٨٠ ألف طن من الذخائر والقنابل الأمريكية الصنع؛ لكن شعبها ومقاومتها لا تلقي السلاح ولا ترفع راية بيضاء.
وعبر صمودها هذا.. تقلب غزة المعادلة والصورة التي تكرست لسنوات، فيصبح العربي نموذجا وقدوة، وترتفع حناجر المتظاهرين في عالم الشمال (أمريكا الشمالية وأوروبا) متضامنة مع هذا النموذج وضد تواطؤ حكوماتهم على إبادته.
وبالعودة إلى كلمات الدكتورة عاشور في بداية هذا المقال٬ فقد أثبت أهل قطاع غزة، ورغم كل ما تعرضوا وما زالوا يتعرضون له على يد آلة الموت الصهيونية المدعومة أمريكيا وأوروبيا أن هناك طرقا أخرى للحياة.
ولكن ليست حياة ذليلة مهانة كما يريد لنا الساسة في عالم الشمال؛ ولكنها حياة كريمة عزيزة تليق بحجم التضحيات، حياة كتلك التي لخصها شاعر فلسطين الراحل محمود درويش في بيت شعر بليغ:
“وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ”.