رؤى

طوفان الأقصى.. عودة القدوة والمثال

يصعد الخطيب المنبر في المسجد لإلقاء خطبة الجمعة، وبطبيعة الحال وكما اعتاد المصلون ومن بينهم كاتب هذه السطور، لا يتحدث الخطيب عن الواقع المعاش، وإنما يحيل إلى الماضي.

ينتقي الخطيب نماذجَ وقصصا من عصر صدر الإسلام، ومواقفَ لعددٍ من الصحابة والتابعين؛ مؤكدا على المصلين أن عليهم أن يتخذوهم قدوة ومثالا يحتذى به.

ولكن اللافت، أن الخطيب لا يبدو مقتنعا، بفكرة أن من يخاطبهم من مصلين، يمكن أن يكونوا يوما ما، كالمثال الذي يضربه أو أن يماثلوهم خلقا وفعلا؛ بل يشعر المصلون وكأن الخطيب يُقرِّعُهم بعد كل قصة يرويها، حين يردد على مسامعهم “أين نحن من هؤلاء؟”.

اليوم، يبدو قطاع غزة الصامد، وكأنه إجابة شافية عن سؤال الخطيب الاستنكاري.

تؤكد غزة وأهلها، أن المثال والقدوة اللذين كان يبحث عنها خطيب الجمعة، وكان يشكو مُرَّ الشكوى من غيابهما، لدى قطاع عريض من شباب اليوم، ليسا فقط متوفرين في ماض بعيد، وإنما يمكن أن تتوافر في حاضر الأمة أيضا.

أهدتنا غزة -ولا زلت تهدينا- نماذجَ مضيئةً، في ظل واقع عربي معتم وشديد القتامة، وتبدو تلك النماذج امتدادا للسلف الذي كان يستشهد به الخطيب.

تبدو نساء غزة امتدادا طبيعيا، لشاعرة العرب الخنساء التي قدمت أولادها شهداء، ولم تدمع لها عين، ولم تزد عن أن قالت “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو أن يجمعني ربي بهم في مستقر رحمته”.

لا يصعب على الناظر أن يبصر الخنساء في مشهد السيدة الفلسطينية التي حرمها الاحتلال إخوتها، ومع ذلك فإنها لا تلوم -على طريقة الإعلام الرسمي العربي- المقاومة على استشهادهم؛ بل تُعلي صوتها بالهتاف والتأييد للمقاومة وسلاحها.

ولا يصعب على الناظر أيضا أن يرى تجسُّد مفاهيم الصبر والإيمان، والاحتساب في شخص الشيخ خالد النبهان، الجد المكلوم الذي فقد حفيدته الحبيبة، ولكنه يحوِّل حزنه لطاقة يواسي بها الأرامل والثكالى والأيتام ممن أصابهم مصابه.

كما لا يصعب عليه أن يبصر تجسُّد مفاهيم المهنية، وتحمُّل المسئولية في شخص الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى الشهيد كمال عدوان في قطاع غزة.

ذلك الطبيب الذي بقي صامدا في مشفاه، مرابطا وسط مرضاه رغم الحصار الصهيوني للمشفى، ويوم خرج من المشفى، خرج في مشهد أيقوني، وهو الطبيب الأعزل مرتديا معطفه الأبيض، غير مبال ولا آبه لدبابات العدو، التي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم.

أما من يبحث عن نموذج القيادة، التي لا تتخلى عن شعبها، رغم المعاناة، وتقاسمه ما يعاني؛ فليس من الضروري أن يلجأ إلى صفحات التاريخ، فكل ما عليه هو أن يحيل بصره إلى نموذج القائد القسامي الشهيد (أبو إبراهيم) يحيى السنوار.

ذلك القائد الذي أبى-رغم حساسية منصبه- أن يبقى آمنا في نفق تحت الأرض، كما صورت الدعاية الصهيونية المغرضة؛ وإنما اختار أن يواجه المحتل بشكل مباشر فوق الأرض، وأن ينال الشهادة على الأرض، التي طالما عشقها في اشتباك مسلح مع قوات العدو.

والأمر نفسه ينطبق على قائد آخر لا يقل أهمية هو الشهيد أبو خالد محمد المصري الشهير بالضيف، وهو نموذج للقيادة التي تأبى أن تنال أسرتها أية امتيازات أو معاملة خاصة.

بمجرد الإعلان عن استشهاد ذلك القائد الاستثنائي، من قبل المقاومة الفلسطينية، كشفت كاميرات القنوات الإخبارية، أن أسرته عانت -كغيرها من أسر قطاع غزة- من النزوح والتنقل لتنسف بذلك مزاعم وجودها في الأنفاق؛ وفق ما روَّجه الاحتلال وعملاؤه.

خلاصة القول.. إن المثال والقدوة والنموذج التي كان خطيب المنبر يبحث عنها جاهدا، موجودة في ذلك الركن الصغير -مساحة فقط – من أرض العرب، والمخذول من العالم أجمع، والذي ينطبق عليها حرفيا سؤال الخطيب المتكرر: “أين نحن من هؤلاء؟”.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock