الحوار ظاهرة إنسانيّة، وهو أسلوبٌ يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في رأيه قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره. و”الحوار” في اللسان العربي، من “حوُر” وهو “الرجوع والتردد بين شيئين”؛ والحَوْر “النقصان بعد الزيادة، لأنه رجوع من حال إلى حال”.
وكما سبق وأن أشرنا، فإن لفظ “حوار” في القرءان الكريم لم يرد إلا في مواضع ثلاثة؛ جاءت اثنتان منها في سورة الكهف، وذلك في معرض الحديث عن قصة “صاحب الجنتين” وحواره مع صاحبه الذي لا يملك مالا كثيرا؛ أما الموضع الثالث فقد جاء في سورة المجادلة. إلا أن لفظ “حَوْر” قد ورد في موضع رابع في سورة الانشقاق، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ” [الانشقاق: 14].
واللافت، أن الحوار في التنزيل الحكيم لا يمكن حصر مساحته في الآيات الكريمات التي تتضمن مادة “حوار” فقط؛ ولكن يمكننا أن نعتبر كل المواد الحوارية الواردة في القرءان الكريم، بمثابة الشاهد على مسألة الحوار القرءاني.. لذا، فمن أبرز القصص التي وردت في القرءان الكريم عن الأنبياء الذين دعوا أقوامهم إلى التوحيد والعدل وترك الفساد، تأتي حوارات الأنبياء الخمسة: نوح، هود، صالح، شعيب، ولوط.. عليهم السلام جميعا، لتعكس المواجهة الشديدة بين أنبياء مخلصين يحملون رسالة التوحيد والفضيلة، وقوم غارقين في الفسق والفجور.
ما نود التأكيد عليه هنا، أن هذه الحوارات، التي تناولناها في أحاديث سابقة، تُبرز عدة دلالات هامة: أولها، أن الأنبياء كانوا يستندون إلى “الحوار” والدعوة السلمية في التعامل مع أقوامهم، ما يوضح أهمية الحوار في نشر الحق والعدل؛ بل، و”مركزية” الحوار في التنزيل الحكيم.. ثانيا، يُظهر القرءان الكريم أن عناد الأقوام في مواجهة دعوات الأنبياء كان دائما مرتبطا بالكفر والاستكبار، وأن الله كان يمهلهم لكنهم كانوا يرفضون العودة إلى الحق.. ثالثا، تدل هذه الحوارات على أن الأنبياء كانوا يستخدمون أدلة عقلية ومنطقية في دعوتهم، كما كانوا يؤكدون على أنهم لا يطلبون أجرا دنيويا من أقوامهم، وإنما كان الهدف هو الهداية إلى طريق الصواب.
الصياغة القرءانية
إلا أن الملاحظة الجديرة بالتأمل والانتباه، في آن، تتعلق بمسألة “الصياغة القرءانية”، في وصف هذه الحوارات. إذ، لنا أن نُلاحظ دقة الصياغة القرءانية، والاختلاف في وصف حوار الأنبياء “الخمسة” مع أقوامهم؛ وذلك من منظور التوصيف القرءاني للنبي الذي يُجري الحوار مع قومه. ففي بعض المواضع، يرد لفظ “أخ” كتوصيف للنبي بالنسبة إلى قومه، في حين أن بعض المواضع الأخرى يرد فيها نسبة القوم إلى النبي نفسه.
كمثال، لم تأت هذه الصياغة التي تخص لوط عليه السلام: “وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ…” [الأعراف: 80]، إلا مع نبي الله نوح عليه السلام: “لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ…” [الأعراف: 59]. أما الأنبياء “الثلاثة” الآخرين، فكانت الصياغة مختلفة، حيث جاء لفظ “أخ” توصيفًا لكل منهم؛ للدلالة على أن كل نبي منهم كان من “الإطار المعرفي” نفسه، لمن أُرسل إليهم.. فعاد، كان هود من بيئتهم: “وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ…” [الأعراف: 65]؛ وثمود كان “صالح” من بيئتهم: “وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ…” [الأعراف: 73]؛ ومدين كان “شعيب” من بيئتهم: “وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ…” [الأعراف: 85].
هذه البيئة، أو “الإطار المعرفي” الذي نعني، هنا، يختلف مع ما قال به البعض من المفسرين، ومنهم الشيخ الشعراوي رحمه الله؛ إذ إن هذا الإطار لا يؤشر إلى المكان، ولكنه يدل على “التسمية”. فكل من عاد وثمود ومدين لهم أسماء عُرفوا بها، وذكرها السياق القرءاني؛ هذا في حين أن قوم نوح وقوم لوط، فضلا عن قوم إبراهيم، لم تكن لهم “تسمية” يعرفون بها.
الدليل على ذلك، أن السياق القرءاني في مواضع أُخرى، يأتي على ذِكر لفظ “أخ”، توصيفا لكل من نوح ولوط عليهما السلام. عن نوح، يقول سبحانه: “كَذَّبَتۡ قَوۡمُ نُوحٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ٭ إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ٭ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ” [الشعراء: 105-108]؛ وعن لوط، يقول تعالى: “كَذَّبَتۡ قَوۡمُ لُوطٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ٭ إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ ٭ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ” [الشعراء 160-163]. كذلك، ورد لفظ “أخ” توصيفًا لكل من هود وصالح عليهما السلام. عن هود، يقول سبحانه: “كَذَّبَتۡ عَادٌ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ” [الشعراء: 123-124]؛ وعن صالح، يقول تعالى: “كَذَّبَتۡ ثَمُودُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ صَٰلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ” [الشعراء: 141-142].
إلا أن الذين ورد ذِكرهم، في نفس السورة، “الشعراء”، وفي سياق واحد مع غيرهم، ثم تمت مُخالفة توصيف النبي المُرسل إليهم، بعدم ذِكر لفظ “أخ” توصيفا له معهم، هم “أَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِ” (أصحاب الأيكة). يقول الله عزَّ وجل: “كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٭ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ شُعَيۡبٌ أَلَا تَتَّقُونَ” [الشعراء: 176-177]. و”لۡـَٔيۡكَةِ” هي شجر ملتف، كان القوم يعبدونها.
وبصرف النظر عن الاختلاف القائم بين كثير من المفسرين، القدماء منهم والمحدثين، حول: هل قوم “مَدۡيَنَ” و”أَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِ” أمة واحدة، أم امتان مختلفتان، فهي مسألة لم يوضحها السياق القرءاني؛ وبالتالي، فإن الواجب التأكيد عليه، هنا، أن السياق القرءاني جاء على ذِكر لفظ “أخ” توصيفا لنبي الله شعيب عندما يكون الحديث عن قوم “مَدۡيَنَ”؛ أما عندما يكون الحديث عن “أَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِ”، فهنا يأتي ذِكرهم في مقام “الشرك” وعبادة غير الله، ولذا لم يُدخِل شعيب معهم.
حوار الاختلاف
في هذا الإطار.. فإن أهم ما يمكن استخلاصه مع حوار الأنبياء وأقوامهم، هي مسألة الاختلاف؛ الاختلاف بين الناس، لغةً وعقيدةَ وسلوكا. فعلى خلاف الملائكة، الذين هم مفطورون على عدم الاختلاف والتشعب، فإن الناس قد خلقهم الله تبارك وتعالى مختلفين. وقد أشار التنزيل الحكيم إلى ذلك، في قوله سبحانه: “وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ” [المائدة: 48]؛ وفي قوله تعالى: “وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ” [يونس: 19].
ومن ثم، وكما يبدو من السياق القرءاني، فإن الاختلاف بين الناس يُعدّ من السنن الإلهية، التي لا تبديل لها ولا تحويل. يقول عزَّ وجل: “وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ٭ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ…” [هود: 118-119]؛ ويقول عزَّ من قائل: “وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ” [الروم: 22].
وبالتالي، فإن اعتبار الاختلاف بين الناس، “سًنَّة إلهية”، يًمثل الأساس الفلسفي للحوار؛ بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الحوار ممكنا ومعقولا، إلا إذا كان هناك اختلاف. إذ الواقعية التي تنبني عليها إمكانية – بل، ومعقولية – الحوار، هي وجود الاختلاف “الفكري” بين الناس.
وللحديث بقية.