ثقافة

“رأيت ما لا يجوز لك” البوح مستحيلٌ.. والكتمان هلاكٌ!

ليس مُهمًّا كَمّ الأعمال التي يتركها الكاتب، بل الأهم هو قيمتها وحجم تأثيرها في التاريخ الإنساني حتى وإن قلَّ عددها، وكمْ خلّد التاريخ كُتّابًا تركوا نَصّا أو كتابا واحدا، لكنه كان جيدا وفارقا، فيما لم يُلتَفَت لكثيرين تركوا عشرات الأعمال؛ دون أن يكون من بينها قُصاصة يتيمة ذات قيمة حقيقية.

يفتتح الروائي طارق الطيب -المولود في القاهرة والمقيم في النمسا- روايته الأحدث “رأيت ما لا يجوز لك” الصادرة مطلع هذا العام عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع، قائلا: كل من في الجبّانة خالدٌ، حتّى يخرج إلى الحياة فيموت، مشيرا إلى أن الحياة على الأرض مُعادلٌ للموت والفناء، بينما الخلود الأبدي يكون في مكان وزمان آخريْن، طارحا فيها عددا من التساؤلات التي تخصُّ عالم الواقع المعيش والعالم الآخر الذي ينتظر الإنسان انتقاله إليه: هل الحياة الدنيا مجرد عبث؟ وما المغزى من حياة دنيوية طويلة؟ وهل الهازل العابث فيها هو الأكثر فِطنة؟ ومن الجاهل الأخرق؟ أهو الميت في الحياة؟ أم العائش في الموت؟ مثلما يتساءل الراوي عن المكان الذي سيتسع لاستيعاب ملايين البشر الذين ولدوا منذ الأزل؟

في هذه الرواية، ومن خلال العالم الروائي الذي بناه ممتدا بين الحياة والموت، يناقش طارق الطيب عددا من القضايا الإنسانية، منها العلاقة الأسرية.. متحدثا عن ظروف وأحوال شريكيْ الحياة، منحازا إلى الإنسان الذي يحوّل المرض حياته إلى وجهات أخرى، متسائلا لمَ نُسمي الألزهايمر مرضا؟ لعله نوع من تحرر الروح والخلاص التدريجي من سجن الجسد بإهمال أهم جزء فيه وهو الذاكرة، لعله حيلة لمحاولة الاستغناء عن العقل بالتحليق بعيدا نحو دنيا أجمل تشبه مرابع الطفولة، ومنحازا أيضا إلى المرأة؛ مُقدّرا نُبلها في علاقتها الزوجية أثناء الزواج.. وحال الانفصال، بينما أغلب الرجال، مثلما جاء على لسان الراوي، لا يميلون إلا إلى تذكّر كل ما هو سيئ إذا ما انفصلوا عن زوجاتهم، كما تشير الرواية إلى أن الإنسان يمكنه بالتدريب المثابر أن يستلهم من أرواح السابقين بأسهم وفطنتهم.

هنا يجعلنا الكاتب نتنقل من الواقعي إلى الخيالي، من الحياة قبل الموت، إلى الحياة بعده، من العيش فوق الأرض إلى العيش في المقابر، جاعلا قارئه يتوقع كل المفاجآت، التي يمكن أن تحدث في هذا العالم العجيب الذي رسمه في روايته، التي ترى أيضا أن الإنسان يضطر للعيش داخل أروقة الأحلام؛ ليتحرر من كل القيود التي فرضها عليه الواقع، متخذا من الخيال بديلا آمنا للعيش فيه كما يريد، فارّا من واقع محبط وخانق ومدمر على المستوى النفسي والحياتي.

الرواية التي تتساءل هل المعرفة ألم أم خلاص؟ ترى أن الحياة تتحول أحيانا إلى مجرد حلم أو كابوس، وأن الذاكرة مؤلمة للعاقل، بينما يغيب ألم الذاكرة عمن غاب عنه عقله، داعية إلى عدم العجلة، وإلى تأمل العالم من حولنا، راصدة المأزق الحياتي الذي نتعرض له حين يصبح البوح مستحيلا والكتمان هلاكا، مشيرة إلى أنه من أشق أمور الحياة على المرء أن يُبتلى بشغف؛ بحبيب من الصعب أن يكون له، والأصعب أنه لا يَقدر على منع شغفه، ولا يجسر على البوح.

الرواية التي ربما تسعى إلى الإجابة عن سؤال كيف هو الوضع بعد الموت؟ تشير إلى أنه إذا لم يكن بالإمكان تدريب ذاكرة مهترئة أو رتقها، فلنمزح الآن مع الوقت، وضد الزمن الذي يسخر منا، لافتة النظر إلى حيرة الروائي بين اختيار التنازل عن الحياة الدنيا خارج المقابر، والخلود إلى حياة البرزخ العجيبة؟ أم يقبل موت الداخل ليلتقي بكل أحبابه السابقين الذين غادروا الحياة الدنيا منتظرا وصول أحبابه اللاحقين؟ مُلخّصة رحلة الحياة في عبارة وحيدة: “لم أعد أتذكر أين كنت قبل الدخول؟ ولا عرفت أين أنا!”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock