في تصعيد مفاجئ وغير معهود من حيث الموقع والرمزية، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية، فجر الجمعة 2 مايو 2025، غارات جوية استهدفت مواقع عسكرية وأمنية في منطقة مجاورة للقصر الرئاسي في العاصمة السورية دمشق.
وقد أثار هذا القصف تساؤلات عميقة حول دوافع إسرائيل الاستراتيجية وتوقيتها، خاصةً في ظل هذه المرحلة “الانتقالية” التي تمر بها سوريا، بعد تسلم أحمد الشرع مهامه في “الرئاسة، وفي سياق التوترات المتصاعدة في الجبهة الشمالية للأراضي الفلسطينية المحتلة (شمال إسرائيل)، بما في ذلك الجنوب السوري والجولان المحتل.
كما سلطت هذه الغارات الضوء على محاولة محتملة من جانب إسرائيل، لتوظيف الورقة الدرزية في سوريا، كمدخل للتأثير في التوازنات الداخلية؛ بل وللتدخل في صلب المعادلة السياسية السورية.. ومستقبلها.
رسائل سياسية
استهداف منطقة مجاورة للقصر الرئاسي لا يمكن اعتباره حدثا اعتياديا، أو مجرد ضربة تقنية ضد مخازن أسلحة أو مواقع للميليشيات المدعومة من إيران؛ فإسرائيل التي تملك بنك أهداف دقيقا، وتتسم -للأسف- بغاراتها “الجراحية”، اختارت هذه المرة موقعا محوريا من حيث البعد الرمزي والسياسي.
منطقة القصر الرئاسي، أيا يكن من يقطن هذا القصر، ليست فقط مقرا للسلطة التنفيذية العليا، بل تمثل أيضا مركز القرار السوري، وقلب النظام من حيث القيادة والتحكم.
هذا الاستهداف يحمل رسالة مباشرة للنظام السوري، وتحديدا للرئيس المؤقت، الذي بدأ يتخذ خطوات لإعادة تموضع سوريا في علاقاتها الخارجية، بما في ذلك فتح قنوات تواصل محتملة مع دول خليجية، وطرح مبادرات تقارب مع بعض القوى الإقليمية، ما قد لا يتماشى مع التصورات الإسرائيلية حول طبيعة النظام السوري الذي تريده هشا، ومحاصرا ضمن معادلة أمنية ضيقة.
وفي ما يبدو، فإن تل أبيب أرادت عبر هذه الغارات إرسال رسالتين: الأولى، مفادها أن التغيير في رأس السلطة السورية لن يمر دون ضوء أخضر إسرائيلي ضمنيا؛ والثانية أن إسرائيل لن تتردد في توسيع نطاق ضرباتها، إن شعرت بأن السلطة الجديدة قد تنزلق نحو تبني خيارات غير منسجمة مع المصالح الإسرائيلية، لا سيما فيما يتعلق بالوجود الإيراني، أو محاولة خلق توازن استراتيجي جديد في الجنوب السوري.. أو حتى التقارب مع تركيا بشكل لا تريده إسرائيل.
بعبارة أخرى، الغارات الإسرائيلية تحمل دون شك رسالة موجهة مباشرة إلى أحمد الشرع، الذي ينتمي إلى الجناح الأقل ارتباطا بالمحور “الإيراني – الروسي” داخل النظام السوري، ويُنظر إليه بوصفه مرشح توافق داخلي وخارجي؛ لتسهيل عملية الانتقال السياسي، في مرحلة ما بعد الأسد.
يعني هذا، أن إسرائيل ترى في الشرع -من جهة- فرصةً لكسر الجمود وإعادة تشكيل العلاقة مع دمشق في إطار إقليمي جديد؛ لكن من جهة أخرى، تخشى أن يقود ذلك إلى إطلاق مسارات تسوية قد تُعيد للجيش السوري بعض توازنه، أو تُعزز نفوذ قوى وطنية مستقلة في الجنوب، وهو ما يتناقض مع الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على تقزيم الدولة السورية، وتفتيت سلطاتها بين طوائف ومحاور جغرافية متنافرة.
ولذا، فإن استهداف موقع قريب من القصر الرئاسي؛ يمكن فهمه بوصفه محاولةً لترهيب الشرع سياسيا، ودفعه إلى ضبط خياراته، وربما دفعه أيضا نحو القبول بدور إسرائيلي غير مباشر، في الملف السوري الجنوبي، سواء عبر الوسطاء أو من خلال ترتيبات ميدانية “أمنية”.
ورقة الدروز
وهنا، يبرز التساؤل حول مسألة الدروز، التي تحاول إسرائيل استغلالها؛ إذ من اللافت أن الغارات تزامنت مع مؤشرات على تحركات درزية في محافظة السويداء، تراوحت بين احتجاجات محلية ودعوات لاستقلالية إدارية أوسع، بدعم ضمني من بعض الجهات الخارجية.
وقد رافق ذلك تسريبات إعلامية إسرائيلية عن “قلق” تل أبيب على “وضع الدروز في سوريا”، في محاولة واضحة لتبرير أي تحرك إسرائيلي محتمل في الجنوب، تحت عنوان “حماية الأقليات”.
لكن القراءة السياسية العميقة تشير إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فإسرائيل تسعى، كما هو واضح، إلى استثمار موقع الطائفة الدرزية، ذات الامتداد الثلاثي (سوريا – لبنان – إسرائيل)، كـ”رافعة” للتدخل الناعم في الشأن السوري، خاصة في الجنوب، حيث تشكل السويداء حجر زاوية في أي معادلة أمنية أو سياسية مقبلة.
وقد لا يكون من قبيل المصادفة.. أن تُكثف تل أبيب رسائلها “الحمائية” للدروز في هذه المرحلة بالذات، في ظل تآكل نفوذ النظام في الجنوب، وتنامي الاستقلالية المحلية في السويداء، ما قد يفسح المجال أمام إسرائيل لدعم كيانات محلية ذات طابع إداري أو أمني بحجة حماية المجتمع الدرزي، بما يعيد سيناريو “المنطقة الآمنة”، أو “الإدارة الذاتية”، على غرار ما حدث في الشمال الشرقي مع الأكراد.
والجدير بالتأمل والانتباه في آن -بالرغم من الطابع الاستفزازي للغارات- أن النظام السوري لم يبدِ ردا مباشرا، واكتفى بتصريحات تدين “العدوان”، مع بعض التلميحات عن “احتفاظه بحق الرد”. هذا النمط المألوف من التفاعل يعكس إدراك دمشق لحجم المخاطر في حال قررت الرد، خاصةً في ظل هشاشة المرحلة الانتقالية، وتضاؤل الدعم العسكري الروسي، والانكفاء الإيراني النسبي.
أبعاد إقليمية
بالطبع، لا يمكن فصل التصعيد الإسرائيلي الأخير عن التحولات الإقليمية، خاصةً في ظل تقارب “عربي – إيراني” متدرج، ومساعٍ عربية لاحتواء دمشق وإعادتها إلى الحاضنة العربية! هذا المسار يقلق إسرائيل، التي تخشى أن يؤدي هذا الاحتواء إلى تحصين سوريا سياسيا، وإلى تقليص الحاجة إلى الدور الإسرائيلي في إدارة “التوازنات” الأمنية، في المستقبل السوري.
كما أن الغارات قد تكون جزءا من رسائل موجهة لإيران ذاتها، مفادها أن انسحابها أو تقليص وجودها لن يمر دون كلفة، وأن تل أبيب تحتفظ بحقها في تحديد قواعد الاشتباك داخل العمق السوري، حتى في ظل تراجع النفوذ الإيراني أو إعادة التوازن في دمشق.
في هذا الإطار.. تكشف الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة، على منطقة مجاورة للقصر الرئاسي في دمشق، عن مستوى جديد من الجرأة -إن لم تكن “البلطجة”- في السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا، وعن رغبة إسرائيلية صريحة في رسم حدود المرحلة الانتقالية الجارية، وربما في التأثير على مخرجاتها. ومن ثم، فإن توظيف ورقة الدروز، ليس سوى أداة من أدوات هذه السياسة، وهي أداة تُخفي خلفها طموحات أوسع لإعادة رسم خريطة النفوذ في الجنوب السوري، وتكريس واقع التفكك في مستقبل الدولة السورية.
أما الرسائل الموجهة إلى أحمد الشرع، فهي تحذيرية الطابع، وتحمل دعوة غير معلنة للتماهي مع الخطوط الحمراء الإسرائيلية، لا سيما فيما يتعلق بالجنوب السوري، والعلاقات مع إيران، وموقع سوريا في التوازنات الإقليمية.. خاصة مع تركيا.