في تطور لافت وغير مسبوق، في سياق الصراع الإقليمي المحتدم، أعلنت جماعة الحوثيين في اليمن عن إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل، استهدفت منطقة قريبة من مطار بن غوريون، أحد أكثر المواقع حيوية في البنية التحتية الإسرائيلية.
ورغم أن الهجوم لم يصب أهدافه بدقة، أو يُسفر عن أضرار بشرية أو مادية كبيرة، إلا أن رمزيته وجرأته شكّلا تحوّلا نوعيا في قواعد الاشتباك الإقليمي؛ فضلا عما أثار من موجة واسعة من التساؤلات حول طبيعة الرسائل السياسية، التي تقف خلف هذا التصعيد، ودور إيران المباشر أو غير المباشر في توجيهه.
واللافت، أن الهجوم الصاروخي الحوثي على محيط مطار بن غوريون، ليس مجرد حدث عابر، بل يمثل نقطة تحول في ميزان القوى الإقليمي، ورسالة إيرانية مشحونة بالدلالات الاستراتيجية.
في ظل تصاعد الصراعات وتعقيد المشهد الإقليمي، فإن هذا الهجوم يعكس إصرار إيران على إعادة صياغة موازين الردع، وتثبيت حضورها بوصفها قوة لا غنى عن التفاوض معها. أما إسرائيل، فإنها تقف أمام تحدٍ وجودي: كيف تتعامل مع خصم يضرب من بُعد آلاف الكيلومترات، ومن دون أن تملك ردا مباشرا يردع أو يغير قواعد اللعبة.
هدف استراتيجي
منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، في غزة، في 7 أكتوبر 2023، تصاعدت حدة التوترات في المنطقة؛ وسرعان ما بدأت “جبهات المقاومة” بالتحرك تدريجيا، سواء في الجنوب اللبناني عبر حزب الله، أو من سوريا، أو حتى من الأراضي العراقية واليمنية. إلا أن انتقال الهجمات إلى استهداف العمق الإسرائيلي من قبل الحوثيين في اليمن، يُعدّ سابقة خطيرة تعني بالدرجة الأولى أن ساحة الاشتباك لم تعد مقتصرة على حدود قطاع غزة أو الجبهة الشمالية لإسرائيل، بل باتت تمتد جغرافيًا إلى البحر الأحمر وما بعده.
والواقع، أن اختيار محيط مطار بن غوريون هدفًا للهجوم ليس أمرا عشوائيا؛ فالمطار يُعتبر مركز النقل الجوي الأول لإسرائيل، ويشكل رمزا للاتصال الدولي والتجاري والسياحي. كما أن المطار يتمتع بأهمية أمنية كبيرة، إذ يُعد أحد أبرز المنشآت التي تُحمى من خلال أنظمة القبة الحديدية، وأنظمة الدفاع الجوية الإسرائيلية عموما. وعليه، فإن استهداف هذا الموقع يُعبّر عن محاولة لإيصال رسالة بأن “العمق الإسرائيلي لم يعد بعيدا عن نيران المحور”، بل بات في مرمى الصواريخ؛ حتى من نقاط بعيدة مثل اليمن.
رسائل وتداعيات
رغم أن الصواريخ الحوثية لم تحقق إصابات دقيقة، فإن الأثر السياسي والجيوسياسي للهجوم كان أوسع بكثير من نتائجه الميدانية.. فالهجوم كشف ما يلي:
من جهة، يتبدى تشظي الصراع الإقليمي؛ حيث يُشير هذا الهجوم إلى أن الحرب في غزة لم تعد منعزلة عن بقية ملفات المنطقة، بل باتت تتقاطع مع الحسابات الإيرانية-الإسرائيلية، والأميركية-الإيرانية، والصراع في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
أضف إلى ذلك، من جهة أخرى، ما يُمكن تسميته “جرأة” المحور الإيراني؛ إذ يُعدّ الحوثيون جزءا لا يتجزأ من “محور المقاومة” المدعوم من إيران؛ ومن خلال هذا الهجوم، ظهرت درجة جديدة من الجرأة في الرد على السياسات الإسرائيلية، حتى من أماكن غير معتادة.
ثم، هناك من جهة أخيرة، اختبار منظومات إسرائيل في الدفاع الجوي؛ فهذا النوع من الهجمات، يشكل اختبارًا فعليًا لفعالية القبة الحديدية ومنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي، ذات الأبعاد الأربعة المتتالية؛ خاصة عندما تأتي الصواريخ من مسافات بعيدة ومعقدة مثل الأراضي اليمنية.
هذا عن تداعيات الهجوم الحوثي.
أما الرسائل الإيرانية؛ فيمكن استنتاجها عبر ملاحظة أنه من غير الممكن فهم هذا الهجوم بمعزل عن الدور الإيراني، سواء من حيث الدعم التكنولوجي للحوثيين، أو من حيث التوقيت السياسي المتزامن مع التصعيد الإقليمي.
ويمكن قراءة الهجوم على أنه رسالة إيرانية متعددة الأبعاد:
فمن جانب، هناك المحاولة الإيرانية في إظهار تعددية أدواتها؛ إذ، من خلال تفعيل الحوثيين، تسعى طهران لتأكيد أنها قادرة على إدارة المواجهة مع إسرائيل من أكثر من جبهة، وبتكاليف أقل. وهذا يعزز نفوذها في لعبة “التهديد غير المتماثل”. أضف إلى ذلك، أن إيران تُدرك أن التصعيد المباشر مع إسرائيل مكلف؛ لكنها، في الوقت نفسه، تريد أن تُظهر أنها قادرة على الرد دون الدخول في حرب شاملة، وذلك عبر “وكلائها” الذين يمكنهم التحرّك وفق الحاجة.
على الجانب الآخر، هناك الإشارات المُرسلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي ظل التصعيد الأميركي تجاه الميليشيات المرتبطة بإيران في سوريا والعراق، وتجاه جماعة الحوثي أيضا، ربما أرادت طهران توجيه إنذار ضمني، بأن أي توسع في الضغط الأميركي سيؤدي إلى فتح جبهات غير متوقعة.
هذا، فضلا عن الرسالة الخاصة بتعزيز أوراق التفاوض، خاصةً أن إيران تدخل في هذه المرحلة مفاوضات حول برنامجها النووي، مع الولايات المتحدة؛ ومن ثم، فإن هذا النوع من الهجمات كورقة ضغط تُثبت قدرتها على التأثير في معادلات الأمن في الشرق الأوسط.
نتائج واحتمالات
لعل السؤال الأهم المطروح حاليا، هو: هل يشكل هذا الهجوم بداية لمسار تصعيدي مستمر من قبل الحوثيين وإيران، أم أنه مجرد استعراض رمزي الهدف منه توصيل رسائل معينة، دون الدخول في مواجهة شاملة؟
ربما تكون الإجابة هنا تبقى مفتوحة، لكنها تتأثر بعدة معطيات: في مقدمتها أنه طالما أن إسرائيل قامت بالرد على الهجوم الحوثي على مطار بن غوريون، بالهجوم على ميناء الحديدة، المدينة الساحلية على البحر الأحمر؛ فالاحتمال المتوقع يتبدى من خلال القرار الإيراني الاستراتيجي، بمعنى أن طهران سوف تمارس نوعا من “الضبط والتحكم” في أدواتها الإقليمية؛ خاصة أنها تُراهن على البقاء تحت عتبة الحرب الشاملة. لذلك، قد لا تُشجع على المزيد من الضربات الحوثية في المدى القريب.
هذا عن الاحتمال المتوقع؛ أما النتائج الواضحة على المستوى الإقليمي، فيمكن الإشارة إليها من خلال عدد من النقاط.. أهمها: دخول الحوثيين كفاعل عسكري في الصراع مع إسرائيل، بما يعني أن أي تسوية مستقبلية، سواء في غزة أو في لبنان، لن تكون كافية لضمان الهدوء على جميع الجبهات. أضف إلى ذلك، على المستوى السياسي، أن هذا الهجوم يمنح الحوثيين مكانة ضمن “المقاومة الإقليمية”، ويعزز أوراقهم في أي مفاوضات مستقبلية بشأن اليمن.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن الهجوم الصاروخي الذي شنّته جماعة الحوثيين على محيط مطار بن غوريون، لم يكن مجرد حدث عسكري محدود، بل هو علامة على انفتاح الصراع في الشرق الأوسط على ساحات جديدة، وأدوات غير تقليدية؛ كما يحمل في طياته رسائل إيرانية واضحة، مفادها أن طهران ما تزال اللاعب الأكثر قدرة على تحريك الجبهات عند الحاجة، وأن أمن إسرائيل لم يعد مرتبطا فقط بجبهات غزة ولبنان، بل بات مهددا من البحر الأحمر وحتى الخليج. ومع أن الردود ما تزال مضبوطة، أو قابلة للانضباط، إلا أن المنطقة تقف على حافة احتمالات مفتوحة، قد تنفجر في حال تجاوز أي طرف حدود اللعبة غير المعلنة.