ثقافة

“ملحمة المطاريد” .. رواية مختلفة تحمل سحر الجنوب

1

حين تقرأ للدكتور عمار علي حسن، لا يغيب عن خاطرك تعدد مجالات الكتابة في سيرة قلمه. فهو باحث الاجتماع السياسي صاحب تحفة «التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر»، و”المجاز السياسي” وهو المثقف الموسوعي وصاحب المواقف السياسية المُعلنة، وهو الشاعر وعاشق سيرة المتصوفة وصاحب “فرسان العشق الإلهي”، وهو الناقد الذي يكتب عما أعجبه من روايات، وهو كاتب القصة القصيرة التي لا تخلو من إسقاطات وإشارات من قريب أو من بعيد. ثم هو الروائي صاحب شجرة العابد..

وغير ذلك من عشرات الإنتاجات العلمية والإبداعية والنقدية.

وفي كل تلك الأعمال، لا تستطيع أن تفصل أيًا منها عما تعرفه من سيرة الدكتور عمار واهتماماته وتنوع كتاباته، لتجد نفسك مُرغما على البحث عن تفاسير مخفية بين السطور، مُستحضرا مقولة الروائي والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو: “النص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير”. فيذهب التفكير اتجاهات شتى، وكلها تنطلق من سابق خبرتك بأسلوبه ورصيد إنتاج قارب ستين كتابا.

2

“انسَ كل ما سبق”..

 هذا أول ما دار ببالي وأنا في منتصف الجزء الأول من “ملحمة المطاريد”. فأنا أمام عملٍ مختلف عن كل ما سبق، وإن كان أغلب ما سبق رائعا.

هذه المرة كأن الدكتور عمار -نفسه- تعمّد الانعزال عن كل ما قدّم من كتابات، رغب في أن يُصدر شيئا جديدا ومختلفا.. شيئا جريئا من حيث الضخامة، في زمن سباق الروايات القصيرة لتجنب ملل القارئ.. شيئا وضع فيه خبراتٍ لم ينطق بأغلبها من قبل، وحكاياتٍ ظلت مخزونة حتى اختمرت واستوت وضجّت لتسيل على الورق.

عشرات الشخصيات دون ارتباك، أجيال مستمرة دءوبة في تحقيق حلمٍ واحد. علاقات توازي الخط الرئيس للرواية، ليست هامشية ولا هي تطغى على النص الأصلي.. تجري الحكاية لتصل إلى حكاية فحكاية، وكلها في الأساس حكاية واحدة، بطلها -ربما دون أن يقصد المؤلف- كان النيل بعطاياه وطغيانه.. بتدفقه وغضبه..

3

“إن لم تأتِ بالجديد، فلا تكتب. وإن لم تأتِ بما يُدهش فلا تكتب، وإن لم تكن جريئا صادما لكل توقعات القارئ، فلا تكتب”. تخيلت أن تلك العبارات وضعها أمامه الدكتور عمار وهو يبني بقلمه بيوتا، ويخطُّ قريةً ويمد خطوط السكة الحديد، ويصعد الجبل ويهبط ويجدف في النهر، ويتسلل في الظلام ويفض النزاع على اسم محطة القطار، ويبدأ من السلطان برقوق وفيضان النيل الغاضب، حتى ينتهي مع مقدمات ثورة 1919.

خمسة قرون مصرية خالصة، بدأت برؤيا واستمرت باختطاف طفل رضيع، وانتهت وهي تقارب البدايات. وكأن أحد مجاذيب الحكاية أسرّ للمؤلف في أذنه بمقالة الشيخ الأكبر ابن عربي، بأن حياتنا دوائر، نقطة تنطلق حتى تعود إلى حيث انطلقت. أو كما يؤكد الشعر (القوّال):

صابر والزمن غدّار

يعاند اللي يريده

بيده كاس مر دوار

كل ما ينقص يزيده

4

“ما ضرّه لو اختصر”..

هذا ما قلته لنفسي وأنا أضع الأجزاء الثلاثة على مكتبي. وحين بدأت الجزء الثالث – انتهيت منه في جلستين- قلتُ لنفسي: علىّ الاعتذار للرجل، بل لومه على أنه توقف وطفل من الجابرية يضرب ثلاثة أطفال من الصابرية.. بينما (ناجي) القاضي والمدرس والسياسي وارث كل الحكايات والمكلوم كيعقوب -عليه السلام- ينظر الأفق وينتظر..

“وسألت امرأة جارتَها: هل ننجو؟

لم ترد للوهلة الأولى، إنما أرسلت ناظريها إلى حيث اقترب الماء، ثم أجابت بصوتٍ عالٍ: يا رب”

أُنسُ القرية بل الصعيد والقُطر كله من النيل لا يضارع بحالٍ غضبة النيل.. كذا تقارب الحكايات على الانتهاء، وكذلك بدأت وقرية تُبنى بعد هدوء الفيضان، بل تبدأ قبل ذلك مع الإهداء إلى أهل قرية الوصلية:

 “التي أكلها النيل في فيضانه قبل قرنٍ، فهرب أهلُها بالحكايات. وحين غرسوها في صفحات الأيام وصلت إلى مسامعنا نحن الأحفاد أسطورة كبرى”.

5

تذكرون كيف مزج ماركيز بين خيال جامح ويوميات رتيبة؛ ليكشف حقيقة في تجربة إنسانية فريدة، فقدّم فلسفةً خاصةً بالحب والحياة والموت والعداوات والصداقات والخيانات والخذلان والحقد والشجون! وظلت الأحلام تراود الواقع على مدى مِئة عام..

أما (ملحمة المطاريد) التي امتدت خمسة قرون، فقد سافرت في روح الصعيد بصراعاته وحكمته، بأبطاله وفلاتيه (مطاريد الجبل) ومآسيه ومجاذيبه، الجنوب الذي لا يخلو من سحر، مثّل واقعية سحرية كادت أن تكون مصرية خالصة..

الواقعية السحرية، وظلال ألف ليلة وليلة والسير الشعبية.. وكفٌّ مطبوعةٌ على صدر رضيع كأنها توقيع القدر الذي لا مهرب منه.. الخيال الذي لا ينفك عن الحقيقة.. الصوابر والجوابر، قابيل وهابيل، شر الإنسان الذي فاق كيد الشيطان، في مقابل نجاة أصحاب المقامات.. العشق يحضر طاغيا، بهدوء حتى تُبطئ جريان عينيك على الأوراق، أو بقوة وانفجار حتى تطمئن على ابن جديد من الصوابر، تتوقع منه ألا ينسى الوصية، وأن يكمل من سيرة سالم بن غنوم.

اخترع ماركيز  (ماكوندو) المدينة التي لا وجود لها، ورسمها كما مدينة (آركاتاكا) حيث ولادته وأصوله.. وحدّثتني (ملحمة المطاريد) عن (الصابرية) التي -ربما- عاشها عمار علي حسن في طفولته بالمنيا، وحشد فيها ما قاله الشيوخ وما تلته العجائز على أسماع أطفالٍ؛ فصدّقوه وحسبوه -في الكِبَر- نسيا منسيا، فإذا هو الحاضر أشد من حضور يومياتنا في العاصمة وأضوائها.

6

والجميل، أن المربعات الشعرية التي ذّيّل بها القوّال كل فصل، هي شعر الكاتب نفسه.

7

تبقى كلمة: تلك الرواية لا يجب أن تتوقف عند إصدارها الورقي أو الإلكتروني، هذه رواية -ربما عن غير قصد مؤلفها- كُتبت للصورة، للدراما.. لتتحول إلى سيناريو ومسلسل في ثلاثة مواسم أو أكثر.

  • روائي وإعلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock