رؤى

الجدال في القرءان.. وأسس “ثلاثية” المعرفة

لعل القاعدة التي وصلنا إليها عبر الأحاديث السابقة، حول الجدل والجدال، تلك التي مفادها: أن كلاهما، يقوم على الثنائية؛ الجدل داخل النفس الإنسانية، باعتبار أن الإنسان هو “وحدة من الذكاء والمادة”، وهو بذلك يمكن أن نُطلق عليه “جدل الإنسان”.. أما الجدال فهو بين النفس الإنسانية ونفس أخرى خارجها، وهو بهذا يتوقف على اتجاه عملية “الجدل” نفسها؛ إن كان في الاتجاه الإيجابي، أي في محاولة التوصل إلى تنفيذ الحل الصحيح لمشكلة ما، يمكن أن نُطلق عليه “الجدل الإيجابي”، الذي يختلف عن “الجدل السلبي”، بما يُعبر عن تعويق حركة الجدل الإيجابي، إما عبر تعطيل تنفيذ الحل، أو صرف النظر عن الحل الصحيح للمشكلة، أو إلهاء الناس عن معرفة الأبعاد الاجتماعية في مشكلاتهم الفردية.

بهذا المعنى يكون الجدال -بوصفه فعلا إنسانيا- متضمنا “الجدل الاجتماعي الإيجابي، أو الصراع الاجتماعي السلبي؛ وبهذا المعنى أيضا يمكن أن نُطلق عليه الجدال الاجتماعي، من حيث تعبيره عن عملية الجدل في مجتمع، في مكان محدد في مرحلة زمنية معينة. وبكلمة، فإن الجدال بوصفه اسما، ومصدرا للفعل الرباعي جادل، يُعبر عن عمل إنساني واعٍ، بما يعني “الاستخدام الإنساني لقانون الجدل، بأسلوب واعٍ للوصول إلى هدف محدد”.

فماذا عن الاستخدام القرءاني للفعل الرباعي “جادل”، خاصة في صيغة الفعل المضارع يجادل؟

لفظ يجادل

ورد الفعل المضارع “يُجَٰدِلُ” في ستة مواضع في التنزيل الحكيم. بيد أنه من اللافت، في هذه المواضع الستة، أن العبارة القرءانية “وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ”، قد وردت في ثلاثة مواضع منها؛ مرة واحدة في سورة لقمان [20]، ومرتان في سورة الحج [3،8].

وكما يبدو، من خلال هذه العبارة القرءانية، فإن “يُجَٰدِلُ” يأتي تعبيرا عن جدال مذموم، أو بالأصح صراع يتسم بصفة أساسية: “بِغَيۡرِ عِلۡمٖ”. فالذي يُجادل في الله بغير علم، يكون مجادلا في ما لا يُدركه، أو مُعارضا لما هو ثابت بيقين، دون أن يكون لديه حجة عقلية صحيحة، أو دليل موثوق. ومن هنا، أطلقنا على هذه المجادلة “ثلاثية الجهل”.

ولعل المُلاحظ، هنا، في هذه العبارة القرءانية، هو تقييد “يُجَٰدِلُ” بكونه بغير علم؛ بما يُفهم منه أن الجدال بعلم، أي أن يكون فعل “يُجَٰدِلُ” استنادا إلى علم، بهدف إحقاق الحق وإبطال الباطل، هو فعل محمود. وهنا، نفهم أن المجادلة الباطلة هي المقصودة من العبارة القرءانية “مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ”، في قوله سبحانه: “وَقَالُوٓاْ ءَأَٰلِهَتُنَا خَيۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ” [الزخرف: 58]. وفي الوقت نفسه، نفهم أن المجادلة الحقة هي المقصودة من العبارة القرءانية “وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ”، في قوله تعالى: “ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ” [النحل: 125].

وبالعودة إلى لفظ “يُجَٰدِلُ” الذي يرد في العبارة القرءانية “وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ”، يقول الله عزَّ وجل: “أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ” [لقمان: 20]. هنا، نُلاحظ الحركة العطفية بين نصف الآية الكريمة الأول، وبين نصفها الآخر؛ أي بين “أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ… وَأَسۡبَغَ…”، وهي مسائل يمكن رؤيتها والتأكد منها، بدليل فاتحة الآية “أَلَمۡ تَرَوۡاْ”.. وبين “وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ…”. الحركة العطفية هذه، تؤشر، من المنظور الدلالي، إلى التناقض الكبير بين مقدمة الآية التي ترد فيها مؤشرات العلم الواجب إدراكه وتدبره، وبين خاتمة الآية التي ترد فيها الإشارة القرءانية بأن بعض الناس “مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ”؛ وهو التناقض الذي يدل على “الصراع” بين المجادلة بعلم والمجادلة بغيره.

ثلاثية “المعرفة”

لنا أن نُلاحظ أيضا ما يمكن أن نُطلق عليها “ثلاثية المعرفة”.. هذه الثلاثية التي إن غابت أو تغيبت، تحولت إلى ثلاثية جهل، وهي تلك التي تذكرها الآية الكريمة في “بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ”؛ فالـ”عِلۡمٖ” هو أسس بناء المعرفة الصحيحة، من حيث إن “العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به”. أما الـ”هُدٗى” فهو “الإرشاد والاستدلال”، كما في قوله سبحانه: “ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ” [البقرة: 2]. ثم، يأتي “كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ” للدلالة على “الكتاب المُضىء المُبيِّن للحق”، بما يؤشر إلى ما جاء وحيا من الله سبحانه وتعالى؛ وذلك، كما في قوله تعالى: “فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ جَآءُو بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُنِيرِ” [آل عمران: 184].

وقد وردت هذه الثلاثية نفسها، في قوله عزَّ وجل: “وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ” [الحج: 8]. وهنا في السياق القرءاني لهذه الآية الكريمة، تأتي النتيجة لهذه الثلاثية، ثلاثية “الجهل”، وليس ثلاثية “المعرفة” بالطبع؛ وذلك، في الآيتين الكريمتين التاليتين لهذه الآية.. بقول عزَّ من قائل: “ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٭ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ” [الحج: 9-10].

إذ، تتبدى هذه النتيجة في سلوك من يقوم بالمجادلة “فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ”؛ إنه السلوك المتمثل في “ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ”، الذي غايته “لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ “.. ومن ثم، يكون جزاؤه الذي تُشير إليه الآية: في الدنيا “خِزۡيٞۖ”، وفي الآخرة “عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ”.

إذ، “ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ” يدل على ثني الإنسان جانبه وليّ رأسه، عند الوصول إلى مرحلة عدم القدرة على استكمال ما يقوم به من مجادلة لا تستند إلى “ثلاثية المعرفة”.. (ثنى الشيء بمعنى لي هذا الشيء؛ وعطفه تعني جانبه عند رأسه). أما “خِزۡيٞۖ” فهو الهوان والذلة، وهو جزاء الدنيا قبل جزاء الآخرة. والأهم، أن الجزاء “ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ”؛ وأنه ليس ظُلما، استنادا إلى “أَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ”. ولنا أن نُلاحظ أن “ظلام” صيغة مبالغة من الفعل ظلم، وهي بالطبع تختلف عن اسم الفاعل “ظالم”؛ إذ، تبدو الصياغة القرءانية دقيقة بشكل مثير للانتباه والتأمل. فهو، سبحانه، قال “لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ”، ولم يقل “ليس بظالم للعبيد”، وهو فارق له معناه ودلالته.

ثم، يأتي الموضع الثالث، الذي تتأكد فيه هذه المجادلة “فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ”، في قوله سبحانه: “وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ” [الحج: 3]. ولأن الذي “يُجَٰدِلُ” يقوم بهذا الفعل “بِغَيۡرِ عِلۡمٖ”؛ فهو، هنا، ليس فقط جاهلًا، ولكنه “يَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ”. ومن ثم، تكون النتيجة المنطقية، التي حددها الله تبارك وتعالى، هي ما تدل عليه الآية الكريمة التالية مباشرة لهذه الآية؛ يقول عزَّ وجل: “كُتِبَ عَلَيۡهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ” [الحج: 4].

وإضافة إلى دلالة مفتتح الآية الكريمة “كُتِبَ عَلَيۡهِ”، أي على “مَن تَوَلَّاهُ” (اتبعه)، فإن المثير للانتباه هو التناقض والتضاد بين “يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ”؛ إذ، يضله أي يبعده عن طريق الحق، أما يهديه فهو يدل على دفعه وإرشاده إلى طريق الضلال.. وذلك، من حيث إن يهديه فعل مضارع له دلالة الاستمرارية، وهو من المصدر الـ”هُدٗى”، أي “الإرشاد والاستدلال”، كما سبق وأن أشرنا؛ سواء تم ذلك إلى طريق الخير أم إلى طريق الشر.. وهو ما يوضحه قوله عزَّ من قائل: “إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ طَرِيقًا ٭ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا” [النساء: 168-169].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock