قصة يعرفها كل من اطلع على كتب السيرة النبوية، ملخصها – كما رواها عدة رواة مختلفين- هي أن النبي الكريم، مرَّ بالصحابي الجليل عمار بن ياسر وأسرته، وهم تحت سياط التعذيب الذي أنزله بهم ساداتهم، من قبيلة بني مخزوم في مكة بسبب اتباعهم النبي.
كان النبي يرى – وفقا للرواية- ما يلاقيه آل ياسر، ويألم لمصابهم ولكنه كان يبشرهم قائلا: “أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة”.
والمقصود بطبيعة الحال بآل ياسر، كُلا من الابن عمار الذي كان من أوائل، من اتبعوا النبي الكريم، حين ظهرت دعوته في مكة، ووالده ياسر وأمه سمية.
بلغ تعذيب المشركين لأولئك المؤمنين الأوائل، حد موت الأب ياسر تحت التعذيب، وقيّد أبو جهل – زعيم بني مخزوم- يديّ سُمَيّة (أم عمّار) وقدميها بالحبال، ثم طعنها في بطنها، فكانت أول شهيدة نالت المنزلة العظيمة.
نجا عمار من الموت بأعجوبة، بعد أن شهد مقتل أبيه ووالدته أمام ناظريه، ولكنه رغم ما لقيه من عنت، بقي ثابتا على دين النبي الكريم، وبقي يُصبّر ذاته على فقدان أحبته بمقولة النبي له ولأسرته “إن موعدكم الجنة”.
والسؤال الذي يبدو منطقيا لدى مطالعة هذه القصة هو: هل كان النبي يطالب آل ياسر بالصبر، وتحمّل ما يلاقونه في انتظار الخلاص في العالم الآخر فحسب؟ أم أن هناك معنى آخر لمقولته لتلك الأسرة الصابرة؟
في رأيي الشخصي.. أن فكرة الموعد الذي لن يخلفه الله تعالى، والذي بشّر بها النبي الكريم أولئك الصابرين على العذاب لا تقتصر على مكافأة الخالق لهم في العالم الاخر، وإنما تمتد إلى رؤية مصير ظالميهم في الدنيا أيضا.
فقد امتد العمر بعمار بن ياسر، فشهد مقتل الطاغية أبو الحكم بن هشام، والذي سماه النبي “أبو جهل” في معركة بدر، ووفقا لرواية الإمام الطبري؛ فإن النبي قال لعمار بعد المعركة “قَتَلَ الله قاتل أمِّك”.
ولزم عمار جانب النبي الكريم، في كافة غزواته ومعاركه، ولم يتخلف عن أي منها، حتى دخل مع النبي منتصرا ظافرا إلى مكة، المدينة التي شهد مقتل أبويه وعذابهما فيها في السنة الثامنة للهجرة النبوية.
وأبصر عمار بن ياسر بعينيه، من شهدوا تعذيبه وتعذيب والده ووالدته، وشاركوا فيه بالأمس القريب، يخضعون لجيش النبي. كما سمع بأذنيه صوت الأذان يدوي في جنبات مكة، بل في الكعبة ذاتها، ذاك المبنى الذي مُنع هو والمؤمنون الأوائل من مجرد الاقتراب منه أو الصلاة عنده ذات يوم.
ليس ثمة ذرة من مبالغة في القول أن أهل قطاع غزة المحاصر اليوم هما “آل ياسر” هذا العصر.
فهم اليوم مثلهم تماما.. صابرون على عذاب ينزله بهم عدو متغطرس متجبر. وهم أيضا كآل ياسر تماما متمسكون بإيمانهم رغم هذا العذاب كالقابض على الجمر.
إيمانا برب لا يخذلهم، وبعقيدة لا يحيدون عنها قط، وبمقاومة لا يرضون بغيرها ممثلا لهم.
إن صبر آل غزة في هذا العصر، ورغم كافة الظروف المحيطة بهم، تماما كصبر آل ياسر منذ ألف عام وأكثر، نابع من إيمانهم العميق والتام بأن أحبائهم الذي يودعونهم بشكل شبه يومي، لا يرحلون إلى عالم أفضل وحسب.
عالم لا وجود فيه لعدو يقصفهم من الجو ويستخدم التجويع سلاحا ضدهم ويشبع متعته المريضة عبر إذلالهم يوميا على المعابر والطرق.
وإنما أيضا بأن دماء هؤلاء الأحبة هي ضريبة نصر قادم لا ريب.
نصر قد لا يشهده من رحل ولكن سيشهده من يخرج من بين أصلابهم كما شهده عمار منذ ١٤ قرنا.