في الثامن من مايو الجاري.. وقّعت إيران والنيجر، اتفاقية تعاون أمني شاملة، في خطوة أثارت اهتماما واسعا؛ نظرا إلى توقيتها ومضمونها، وما تحمله من دلالات استراتيجية، تتجاوز العلاقات الثنائية بين البلدين إلى الإطار الإقليمي الأوسع. إذ يأتي هذا الاتفاق في سياق تحولات إقليمية ودولية، تشهدها منطقة الساحل الأفريقي، وتنامي النفوذ الإيراني في أفريقيا، وتراجع الحضور الغربي، خاصةً بعد سلسلة الانقلابات العسكرية، التي شهدتها دول مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
ففي ظل هذا التراجع، وبعد مغادرة القوات الفرنسية والأمريكية وغيرهما، إثر موجة من الانقلابات العسكرية التي عرفتها تلك الدول، باتت قوى أخرى تسعى إلى إحلال نفسها بديلا لتلك القوى الغربية؛ ومن بينها إيران، فضلا عن تركيا.. حيث يعكس توقيع الاتفاق الأمني، بين إيران والنيجر، تحولا استراتيجيا في سياسة طهران تجاه غرب أفريقيا عموما، ومنطقة الساحل الأفريقي بشكل خاص؛ إذ تنتقل طهران من المواجهة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، إلى البحث عن نفوذ عابر للقارات، بما يعني محاولة التمركز الإيراني في بيئة جيوسياسية رخوة، تعاني من الهشاشة الأمنية؛ وفي الوقت نفسه، تشمل دولا من خارج الفلك الغربي التقليدي.
دوافع إيران
شهدت العلاقات بين إيران والنيجر تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد الانقلاب العسكري في النيجر في يوليو 2023، والذي أطاح بالرئيس محمد بازوم، الحليف التقليدي للغرب. ومنذ ذلك الحين، سعت النيجر إلى تنويع شركائها الدوليين، والابتعاد عن الاعتماد الحصري على القوى الغربية، خاصةً فرنسا والولايات المتحدة، اللتين فرضتا عقوبات على النظام العسكري الجديد.
في هذا الإطار، برزت إيران بوصفها أحد الشركاء المحتملين للنيجر، حيث استغلت طهران الفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الغربي، وعرضت تعزيز التعاون في مجالات متعددة، بما في ذلك الأمن والدفاع والتكنولوجيا والطاقة. وقد تُوّجت هذه الجهود بتوقيع اتفاق التعاون الأمني، الخميس قبل الماضي، والذي يشمل مجالات التدريب العسكري، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ومكافحة الإرهاب، وتطوير القدرات الأمنية للنيجر.
وتتبدى أهم الدوافع الإيرانية في التالي:
من جهة، تعزيز النفوذ في الساحل الأفريقي.. حيث تسعى إيران إلى توسيع نفوذها في القارة الإفريقية، وخاصةً في منطقة الساحل، التي تشهد فراغا استراتيجيا نتيجة تراجع الحضور الغربي. ومن خلال تعزيز العلاقات مع دول مثل النيجر، تأمل طهران في بناء تحالفات جديدة تعزز من مكانتها الدولية، وتوفر لها موطئ قدم في منطقة ذات أهمية جيوسياسية واقتصادية كبيرة.
من جهة أخرى، الوصول إلى الموارد الطبيعية.. إذ تُعد النيجر من أغنى دول العالم باليورانيوم، وهو مورد استراتيجي؛ تسعى إيران إلى الحصول عليه؛ لدعم برنامجها النووي.
وقد أثيرت تقارير عن مفاوضات بين البلدين لتزويد إيران بكميات من اليورانيوم النيجري، وهو ما أثار قلقا دوليا، خاصةً من قبل الولايات المتحدة وفرنسا، اللتين تخشيان من استخدام إيران لهذه الموارد في تطوير قدراتها النووية.
من جهة أخيرة، محاولة كسر العزلة الدولية.. فإيران تواجه عزلة دولية نتيجة العقوبات المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي. ومن خلال تعزيز العلاقات مع دول مثل النيجر، تسعى طهران إلى كسر هذه العزلة، وتوسيع شبكة علاقاتها الدولية، خاصة مع الدول التي تشاركها في معاداة النفوذ الغربي.
دوافع النيجر
بالطبع، فإن للنيجر دوافعها في توقيع الاتفاق الأمني مع طهران؛ ومن هذه الدوافع:
من جانب، تنويع الشركاء الدوليين.. فبعد الانقلاب العسكري، واجهت النيجر عزلة دولية، وتعرَّضت لعقوبات من قبل فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي محاولة لتجاوز هذه العزلة، سعت النيجر إلى تنويع شركائها الدوليين، والبحث عن حلفاء جدد يمكنهم دعم النظام العسكري الجديد، وتوفير الدعم الاقتصادي والأمني اللازم لتعزيز الاستقرار.
من جانب آخر، تعزيز القدرات الأمنية.. حيث تواجه النيجر تحديات أمنية كبيرة، خاصةً من قبل الجماعات المتطرفة مثل “بوكو حرام” وتنظيم “داعش” في منطقة الساحل. ومن خلال التعاون مع إيران، تأمل النيجر في تعزيز قدراتها الأمنية، والحصول على التدريب والمعدات اللازمة لمواجهة هذه التحديات.
من جانب أخير، الاستفادة من التكنولوجيا الإيرانية.. إذ تمتلك إيران خبرات في مجالات متعددة، بما في ذلك التكنولوجيا العسكرية والطاقة. ومن خلال التعاون مع طهران، تأمل النيجر في الاستفادة من هذه الخبرات، وتطوير بنيتها التحتية، وتحسين قدراتها في مجالات متعددة.
احتمالات مستقبلية
يشير الاتفاق الأمني بين إيران والنيجر، إلى تصاعد التنافس الدولي في القارة الإفريقية، حيث تسعى قوى متعددة إلى تعزيز نفوذها في القارة، واستغلال الفراغ الذي خلفه تراجع الحضور الغربي. ومن المتوقع أن يؤدي هذا التنافس إلى مزيد من التحولات في الخريطة الجيوسياسية للقارة.
وهنا، تبدو في الأفق عدة احتمالات مستقبلية، لعل أهمها ما يلي:
– تعزيز التعاون بين إيران ودول الساحل.. فمن المحتمل أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تعزيز التعاون بين إيران ودول أخرى في منطقة الساحل، خاصةً مالي وبوركينا فاسو، اللتين تشتركان مع النيجر في تحالف “دول الساحل”، الذي تشكّل بعد الانقلابات العسكرية. وقد تسعى إيران إلى توقيع اتفاقيات مماثلة مع هذه الدول، لتعزيز نفوذها في المنطقة.
– تصاعد التوترات مع القوى الغربية.. إذ قد يؤدي التعاون بين إيران والنيجر إلى تصاعد التوترات مع القوى الغربية، خاصةً الولايات المتحدة وفرنسا، اللتين تعتبران منطقة الساحل ذات أهمية استراتيجية. وقد تسعى هذه القوى إلى تعزيز حضورها في المنطقة، أو فرض مزيد من العقوبات، أو الضغوط، على الدول التي تتعاون مع إيران.
– التأثير على الأمن الإقليمي.. حيث يكون للتعاون الأمني بين إيران والنيجر تأثيرات على الأمن الإقليمي، خاصةً إذا أدى إلى تصعيد التوترات أو انتشار التكنولوجيا العسكرية الإيرانية في المنطقة. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة التحديات الأمنية، وتعقيد جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
وهكذا.. يعكس اتفاق التعاون الأمني بين إيران والنيجر تحولات جيوسياسية عميقة، تشهدها منطقة الساحل الأفريقي، وتراجع النفوذ الغربي، وتصاعد دور قوى جديدة مثل إيران. وكما يبدو، فمن خلال هذا الاتفاق، تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية، وكسر العزلة الدولية المفروضة عليها، في حين تسعى النيجر إلى تنويع شركائها الدوليين، وتعزيز قدراتها الأمنية. ومع ذلك، فإن هذا التعاون قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، ويزيد من تعقيد المشهد الأمني في منطقة الساحل.