رؤى

العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية.. بين تغليب اللا منتمين وتغييب المعنى(4- 4)

اللا منتمون

ولتكن البداية بالمنتمين. فالمنتمون إلى العلوم الاجتماعية هم نساء ورجال يتعاملون بشكل مكثف مع الأفكار، يطورونها ويختبرونها بالنقد قبل النقل، وبالاستنارة وليس فقط بالاستعارة. ومن يتعامل مع الأفكار؛ عادة ما يلازمه القلق.

وهذا هو حال المنتمين إلى الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. فمن أكثر منهم تماسا مع هموم الناس، وأوجاع المجتمع وآلام الوطن؟ من غيرهم يبحث في دموية التاريخ، ومؤامرات السياسة، ومظاهر الظلم الاقتصادي ومشكلات القهر الاجتماعي؟ مثلهم لا يعيش إلا والأرق يرافقه واللوعة تصاحبه. المسئولية عندهم، وليس النفعية، أول وأهم شرط لممارسة العلم الاجتماعي. وهم من يأمل في أن يمتلئ الحقل المعرفي لعلومهم بالأصلاء، ويتحسسون بشدة من اقتحامه من الدخلاء. يؤمنون بأن العلم الاجتماعي مسئول عن الغوص في أعماق الإنسان واستشعار عذاباته، ولذا يرون علومهم علوم انتماء عليها أن تعيد المشتغلين بها إلى المرجعيات الإطارية المناسبة؛ ليقتربوا من فكرة المثقف العضوي، ذلك الإنسان الذي يملك معرفةً تمنحه وعيا متقدما بكثير عن مجتمعه. لكن وعيه المتقدم هذا لا يجعله ينفصل عن الناس أو يستخف بمرجعياتهم، أو يتنكر لتقاليدهم، أو يستعلي على أعرافهم، أو يشذ عن سردياتهم. فالمنتمي عضويا للعلوم الاجتماعية شخص يحترم ويفهم ويبدأ من وينتهي عند المجتمع، الذي يعيش فيه ويريد أن يغيّره. فلا يسكن الأبراج العاجية، أو يعمل بالمقاولات الأكاديمية. قد يكون غاضبا من بعض أو حتى من كثير مما يراه في مجتمعه، لكنه لا يتصرف بتأفف أو يتنكر للأعراف التي صنعت تاريخ الناس الذين ينتمي إليهم.

بعبارة أخرى لا يستطيع المنتمي للعلوم الاجتماعية أن يؤدي دوره بدم بارد؛ لأنه جزء من بيئته الحضارية. ومع أن البيئات الحضارية والتعليمية تنفتح على بعضها وتتفاعل فيما بينها إلا أنها -وبالتحديد في العلوم الاجتماعية- تلفظ بعضها إن أحست بأنها تُلغي أو تُستبدل. وهذا هو جوهر الصراع في العلوم الاجتماعية العربية، لعقود ممتدة بين المنتمين واللا منتمين. المنتمون يشغلهم بناء علاقة متينة بين هوية العلم وهوية المجتمع، ويعنيهم إنتاج ما يناسب بني جلدتهم، ونقل ما يلائمهم ويصقل شخصيتهم. أما اللا منتمون فيفكرون في أنفسهم أولا فيسايرون الموضات في النظريات والفلسفات وحتى اللغات.

ولا يرفض المنتمون العرب للعلوم الاجتماعية مطلقا الموضوعية كما يرميهم بذلك بهتانا اللا منتمون. لكنهم يأخذون بها كما عرفها الاقتصادي السويدي الشهير جونار ميردال، في الدراما الآسيوية بأن تدافع عن نفسك منذ البداية. أما اللا منتمون فيتناسون أن الموضوعية، تلك الكلمة البراقة المفحمة، إنما جاءت إلى العلوم الاجتماعية العربية، مع المركزية الغربية؛ متغافلين أن تلك المركزية هي النقيض التام لفكرة الموضوعية.

كذلك فإن المنتمين للعلوم الاجتماعية، يتبنون موقفا أخلاقيا مبدئيا، ضد تحويل الإنتاج البحثي والجهد التعليمي إلى فرقعات وشغل مصانع وضجيج ماكينات، أو أن يعهد بهما إلى مكاتب مقاولات تستنفع أو بالحصول من مكاتب خارجية على شرعيات مضللة كل ما يعنيها ضبط الببليوميتريكس ومعاملات التأثير والتواجد، ضمن قوائم التصنيف التي باتت تغرق المشهد التعليمي بالأرقام لترضي الشكل وتنسى المضمون.

كذلك فإن المنتمين إلى العلوم الاجتماعية في أي مكان من العالم – وليس فقط في منطقتنا- لا يستطيعون التجرد من العواطف أو التنكر للدوافع الأخلاقية أو الانسلاخ عن منظومات القيم التي يعيشون فيها. ولا يرجع ذلك فقط لبشريتهم، وإنما لأن العلوم الاجتماعية “خلقتها كدا”. فهي علوم مشاعر وقيم وتفضيلات وأفكار وأحاسيس وقناعات ودوافع وميول وترجيحات ومسافات ثقافية لا يمكن أن تتحرر من القيم، وإنما تغذّي في النفس فضيلة الاصطفاف مع المقهور وإنصاف الضعيف، وترسخ في العقل قناعة الانتصار لقيم الحرية والعدل والمساواة بما يتوافق والتعريف المحلي للعدل والمساوة والحرية. كما أنها علوم تطورت لتنوير عقول الناس وليس لمسخها وتزييف مدركاتها.

وكم تسببت تلك الالتزامات الأخلاقية في أخطار للمنتمين إلى العلوم الاجتماعية، لكنه الثمن الذي قبلوا أن يدفعوه من أجل لذة الاتساق مع الذات. لكن المنتمين على جسارتهم وكثرتهم أصبحوا قلة بين المشتغلين العرب بالعلوم الاجتماعية؛ إذ باتت تفوقهم عددا وأثرا كتلة هائلة تفرغت للحياد والمشاهدة والعبث وانتزاع الغنائم، وهي كتلة اللا منتمين.

هؤلاء اللا منتمون تعنيهم الأرقام قبل الأفهام. وهم -وأنقل هنا عن كولن ويلسون في كتابه “اللا منتمي” أو The Outsider- أناس يخافون بشدة على أنفسهم من الجماعة التي وجدوا أنفسهم يعيشون وسطها؛ لأنهم يعتقدون أن تلك الجماعة لا قيمة لها؛ بل وتستند إلى أساس واهٍ وربما تكون مجرد محطة مؤقتة في حياتهم، ما يجعلهم يفضلون التفاعل القشري مع همومها وعدم الاندماج في نسيجها أو مشاركة القضايا التي تعنيها. فاللا منتمون يؤمنون بأن حياتهم أهم من كل من وما حولهم.

وهم بهذا الوصف أناس يعانون مشكلة في التموقع والتموضع وسوء التكيف مع المكان، الذي يجدون أنفسهم فيه. ولهذا فإنهم يؤثرون السلامة، ويرضون بالعيش على هامش المجتمع العلمي مفضلين أن يقولوا كلاما ساكتا، وأن يكتبوا في موضوعات مكرورة أو جامدة لا تعكس حاجة المجتمع، ولا ترتقي لسلم الأولويات المعرفية، فضلا عن أنهم كثيرا ما يتفرغون لمصالحهم الخاصة، حتى لو رفعوا شعار المصلحة العامة. هؤلاء اللا منتمون هم تماما من وصفهم الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود، ببقعة زيت تطفو على وجه الماء لتعكر صفحة العلم وتنشر التلوث، وتنتج اللا معنى. وهم ليسوا كتلةً واحدة وإنما شرائح مختلفة أعرض من بينها وبسرعة لعشر فئات تشمل:

1- الأكاديميون البيروقراط ويعتبروا أن الاشتغال بالعلوم الاجتماعية وظيفة توفر مصدرا للدخل وموقعا لكسب الوجاهة الاجتماعية.

2- الدخلاء البينيون ممن التحقوا بالعلوم الاجتماعية بدعاوى التكاملية والبينية ووحدة العلوم دون أن يمضوا وقتا كافيا في تعلم أصولها وفلسفتها.

3- النفعيون وأكاديميو البيزنس الذين يتخذون من العلوم الاجتماعية سبيلا للتكسب سواء ببيع الكتب الجامعية لأعداد غفيرة من الطلاب أو بالسطو على أعمال الغير، وغير ذلك من أشكال الانتهازية التي حولت بعض معاهد وكليات العلوم الاجتماعية العربية إلى مراتع لجماعات مصالح كبيرة وعجيبة.

4- الأكاديميون السواحون الذين لا يستطيعون أن يطوروا انتماءً وهم ينهون عقدا في جامعة ليوقعوا عقدا جديدا في جامعة أخرى. يتحركون كأنهم سلع ولا يخضعون لقانون غير قانون العرض والطلب.

5- المؤدلجون الذين حولوا كليات العلوم الاجتماعية إلى منصات دعائية يعتليها ناشطون يبرعون في الدوجماطيقية والتنمر المعرفي. وقد زخرت ساحات تدريس العلوم الاجتماعية العربية في مراحل مختلفة بممثلين لتلك الفئة من مختلف التيارات العلمانية، والإسلامية، والنسوية، والقومية.

6- الناقلون المقلدون ممن يتبنون بلا وعي محلي النظريات والاقترابات الغربية دون تدقيق في مواءمتها للسياق الوطني أو ينقلون حرفيا عن كتب لغيرهم ليعيدوا إنتاج ما سبق انتاجه.

7- القافزون من الخارج ويضمون بعض من أتى إلى مؤسسات العلوم الاجتماعية العربية ليعيشوا في أبراجها العاجية المريحة مستفيدين من تراث استعماري قديم يغرس المركزية الغربية ويفترض أن الجامعات العربية ما زالت تعيش حالة تعلم مستمرة تفرض عليها الاستعانة اللا نهائية بسادة الصنعة.

8- أكاديميو السلطة والرقباء الأمنيون ممن يسخّرون مواقعهم الجامعية وأدوات الإدارة لإعادة إنتاج الهيمنة، وهم أكبر من ينتج اللا معنى، بل وقتل معنى العلوم الاجتماعية في الصميم.

9- العدميون المقعرون ممن يتعمدون التشدق اللفظي والغموض اللغوي والتفاصح البلاغي ظنا أن ذلك يعمّق المعرفة ويمنحهم سلطة على التخصص.

10- المتعجلون المختزلون الذين يبسّطون الظواهر الاجتماعية إلى حد التفاهة دون النظر في تعقيداتها وتراكيبها العميقة، أو يوجهون طلابهم إلى موضوعات هشة لا قيمة لها ولا تنتج سوى أكواما من الرسائل والأبحاث التي تنهشها الأتربة على رفوف المكتبات.

هذا المدى الواسع من اللا منتمين أوقع العلوم الاجتماعية العربية؛ إما في فخ التبعية لفكر مستورد، أو في شراك ممارسات هزلية تقنع بأشباه المعرفة تخرّج أشباه متعلمين. والأسوأ أنه سلمها تسليم يد إلى غزاة وطغاة، وغلاة، وجناة، وجفاة. أما الغزاة فجاء قليل منهم من الخارج بقناعات رسالية عن مهمتهم الحضارية التي يرون أنها تعفيهم عناء تعلم أي شيء عن العالم العربي، بما في ذلك لغته وتقاليده، أو جاءوا من الداخل من تخصصات علمية بعيدة، لم يتعلموا في ظلها أصول العلم الاجتماعي. وأما الطغاة فتسببوا في أمننة مزمنة لممارسة العلم الاجتماعي. ثم يأتي الغلاة وهؤلاء يغالون إما في نرجسيتهم، أو في التعصب المقيت لأيديولوجياتهم. ثم الجفاة ويتنكرون للجذور الفلسفية المحلية، ويسرفون في الاستعمال المشوه والغرضي والفوضوي لمفاهيم يجرى استيرادها ولم يتم استيلادها. وأخيرا الجناة وهم من قتلوا أهم ما يميز العلم الاجتماعي: المنهاجية. هم مسئولون عن حالة الأمية المنهجية المزمنة التي تفشت وجعلت العلوم الاجتماعية العربية تنتج كثيراً من اللا معنى.

فشل على فشل

وعند هذه النقطة أشير إلى أن عجز كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية، ليس إلا جزءًا من عجز أوسع تعيشه الدولة في العالم العربي. فالدولة كانت وستظل الموضوع الأول لتلك العلوم. فهي علوم دولة، وبالتالي فإن كل ما تعاني منه الدولة العربية تعاني منه أيضا العلوم الاجتماعية العربية. وكما تمتلئ المنطقة بدول فاشلة ورخوة وهشة وحائسة وبأشباه دول، بل ودول شبهة، تخوض العلوم الاجتماعية العربية في ممارسات فاشلة ورخوة وهشة وحائسة ومشبوهة لا ينتج عنها معنى. وبدلا من أن تشارك تلك العلوم في بناء قوة الدولة تحولت إلى شاهد على ضعفها. ولتوضيح التشابه بين الجانبين، أكتفي بالإشارة إلى أن الأزمات الخمسة التي تعاني منها الدولة العربية، هي نفس ما تعاني منه العلوم الاجتماعية العربية والمعاهد القائمة على أمرها.

فالدولة في العالم العربي، لم تتغلب أولا على أزمة الهوية؛ لكي تصبح وطنا يضم الجميع فيصطبغوا فيه بصبغة واحدة. وبالمثل تعاني العلوم الاجتماعية العربية من أزمة هوية تتبدى في الفجوات العميقة، بين القائمين بها وفي اغترابهم وعزلتهم عن بعضهم، وفي عجزها عن انتاج خطاب علمي يكوّن تيارا رئيسا من المشتغلين بها.

وتعاني الدولة في العالم العربي ثانيا من أزمة شرعية جعلتها تفتقر إلى الرضاء الشعبي والقبول المجتمعي بها وبما تؤديه. وتعاني العلوم الاجتماعية العربية بدورها من أزمة شرعية حيث ينقصها الاعتراف العام بجدارتها وقيمتها، ناهيك عن عدم أخذها بجدية في صنع السياسات. كما تتبدى تلك الأزمة في ضعف مستوى اقبال الجمهور على انتاجها.

وتواجه الدولة في العالم العربي ثالثا أزمة توزيع يعكسها غياب العدالة في تقاسم الثروة والسلطة. والعلوم الاجتماعية كذلك تعيش أزمة توزيع. فهي إلى الآن علوم عواصم وحواضر كبرى. هذا جغرافيا. أما ماليا فالقياس مع غيرها من العلوم لا ينصفها.

وتعجز الدولة العربية رابعا عن حل أزمة التغلغل. فكثير من الدول العربية غير حاضر إلى الآن في كل ركن جغرافي من أركانها ولا في ذهن كل مكون من مكوناتها السكانية. والعلوم الاجتماعية كذلك، عجزت عن أن تتغلغل وتستقر بمعانيها الفلسفية العميقة في ذهن المشتغلين بها أنفسهم فما بالنا بذهن الجمهور المستهدف منها.

وخامسا تهدد الدولة في العالم العربي أزمة تكامل أفضت إلى اندلاع حروب أهلية، انتهت بتفكك بعض الدول وتهديد بعض آخر منها بنفس المصير. والعلوم الاجتماعية العربية تعيش أزمة تكامل يعكسها غياب الحوار والميل إلى الانعزال التخصصي، والدخول في استقطابات فكرية ولغوية، كما تتجلى في معاناتها من التجزئة المفاهيمية، وغياب المنهاجية وقلة الدراسات البينية عددا وأثرا.

هذه الأزمات الخمس وكما أحالت الدولة في العالم العربي إلى تكوين ينتج كثيرا من اللا معنى يعج بالساكتين والمنسحبين والفارين واللاجئين واللا منتمين، تحيل العلوم الاجتماعية العربية بدورها إلى ساحات تزخر باللا منتمين من منتجي اللا معنى؟ ساحات ينفصل فيها الدال عن المدلول والكلمات عن المعاني بطريقة لا تختلف كثيرا عما بدر من ذلك المشجع الإنجليزي الذي أوحى نداءه بأنه يتشوق للصلاة، بينما كان يتحرق من أجل لفت انتباه لاعب كرة.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock