في خطوة دبلوماسية بارزة، زار الرئيس الصيني شي جين بين، روسيا زيارة رسمية استمرت أربعة أيام، من 7 إلى 10 مايو المنقضي؛ حيث اجتمع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو.
جاءت هذه الزيارة في إطار تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، والتي تشهد تطورا متسارعا في ظل التحديات الجيوسياسية الراهنة. والواقع، أن هذه الزيارة لم تكن مجرد حدث روتيني؛ بل حملت في طياتها العديد من الرسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ فضلا عن تأثيراتها العميقة على الساحة الدولية.
بل، إن الزيارة شكلت محطة محورية في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، بما لها من تأثيرات واسعة على الساحة الدولية؛ حيث جاءت الزيارة في سياق عالمي متوتر، وفي توقيت تسعى فيه موسكو وبكين إلى تعزيز تحالفهما الاستراتيجي في مواجهة الضغوط الغربية، ولا سيما من الولايات المتحدة.
النتائج السياسية
تأتي زيارة شي جين بينج، إلى روسيا في وقت تشهد فيه العلاقات الدولية توترات متصاعدة، لا سيما مع استمرار الحرب في أوكرانيا، والتصعيد بين الغرب -من جهة- وروسيا والصين من جهة أخرى.
منذ بداية الصراع الأوكراني، اتخذت الصين موقفا “محايدا” ظاهريا؛ لكنها في الواقع دعمت روسيا سياسيا واقتصاديا، ما أثار استياء الولايات المتحدة وحلفائها.
بالطبع، أكدت الزيارة على متانة الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين، حيث اتفق الجانبان على تعزيز التعاون في مجالات الأمن والدفاع، بما في ذلك إجراء دوريات مشتركة في البحر والجو، وعقد تدريبات عسكرية دورية؛ كما دعا البيان المشترك حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى احترام سيادة الدول الأخرى ومصالحها، معارضةً للعقوبات الأحادية الجانب.
وفي ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، شدد الرئيس شي، على مبادرة السلام الصينية، المكونة من 12 بندا، التي أعلن عنها في فبراير 2023، مؤكدا التزام بلاده بموقف حيادي، وضرورة اللجوء إلى الحوار والسلام.
من جانبه، أشار الرئيس بوتين إلى أن العديد من نقاط خطة السلام الصينية تتفق مع التوجهات الروسية، ويمكن اعتبارها أساسا لتسوية سلمية حال استعداد الغرب لقبولها.
الأبعاد الاقتصادية
اقتصاديا، شهدت الزيارة توقيع عدة اتفاقيات لتعزيز التعاون في مجال الطاقة، حيث تعتمد الصين بشكل كبير على النفط والغاز الروسي، خاصةً بعد العقوبات الغربية التي حَدَّتْ من تصدير الطاقة الروسية إلى أوروبا. كما اتفقَ على زيادة صادرات الغاز الروسي إلى الصين، عبر خطوط أنابيب جديدة، ما يعزز أمن الطاقة الصيني ويوفر لروسيا سوقا بديلة عن
أوروبا، ونوقش التعاون في البنية التحتية، خاصةً مشروع الحزام والطريق الصيني، الذي تسعى روسيا إلى الاندماج فيه بشكل أكبر لتعزيز تجارتها مع آسيا وأفريقيا.
بالإضافة إلى ذلك، اتفق الجانبان على زيادة استخدام العملات المحلية (اليوان والروبل)، في المبادلات التجارية لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، وهو ما يعكس سعي البلدين لتحدي الهيمنة المالية الغربية.
وقد شهدت الزيارة توقيع عدة اتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، حيث تجاوز حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين 240 مليار دولار، في عام 2023، مع توقعات بزيادة هذا الرقم في السنوات القادمة.
التعاون العسكري
من أبرز النتائج الملموسة للزيارة كانت الاتفاقيات العسكرية والأمنية المشتركة. فقد أعلن البلدان عن تعزيز التدريبات العسكرية المشتركة، بما في ذلك المناورات البحرية والجوية، بالإضافة إلى تبادل الخبرات في مجال التكنولوجيا الدفاعية. كما جرت المباحثات حول زيادة التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري، وتطوير أنظمة دفاع صاروخي متطورة. هذا التعاون العسكري المتزايد يثير قلق الغرب، بالتأكيد؛ خاصةً أن الصين وروسيا تمتلكان ترسانات نووية هائلة، وتعملان على تحديثها باستمرار.
كما أن التقارب بينهما في مجال الحرب الإلكتروني والفضاء الإلكتروني يشكل تهديدا محتملا لأمن الحلفاء الغربيين، ما قد يؤدي إلى سباق تسلح جديد.
التداعيات الدولية
ولعل هذه التداعيات هي الأهم بالنسبة إلى هذه الزيارة. إذ أثارت الزيارة قلقا في الأوساط الغربية، حيث اعتُبرت مؤشرا على تعميق التحالف بين روسيا والصين في مواجهة النفوذ الغربي؛ كما أكدت على سعي البلدين لإعادة تشكيل النظام الدولي نحو تعددية قطبية، من خلال تعزيز التعاون في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس.
في المقابل، تسعى الصين إلى الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها الدولية، حيث تواصل تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا، مع الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع روسيا. هذا التوازن يعكس رغبة بكين في تعزيز نفوذها العالمي دون الانخراط في صراعات مباشرة مع الغرب.
ومن ثم، لا تقتصر تأثيرات هذه الزيارة على الجانبين الروسي والصيني فحسب، بل تمتد إلى الساحة الدولية بأكملها، حيث تعكس التحولات الجيوسياسية الكبرى التي يشهدها العالم.
فهناك، ما يمكن تسميته “تصاعد القطبية الثنائية” (الغرب في مقابل روسيا والصين)، من منظور أن التحالف الروسي الصيني يشكل نواة لمحور مناهض للغرب، ما يعمّق الانقسام العالمي إلى معسكرين: الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يسعى للحفاظ على هيمنته عبر حلف الناتو والتحالفات الاقتصادية؛ في مقابل المحور الشرقي بقيادة الصين وروسيا، الذي يروج لنظام عالمي متعدد الأقطاب ويعتمد على تحالفات مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون.
أيضا، هناك التأثيرات على الصراع الأوكراني؛ إذ إن زيارة شي جين بينج، عززت موقف روسيا في حرب أوكرانيا، من حيث إن الدعم الصيني -وإن كان غير مباشر عسكريا- يمنح موسكو مزيدا من الصمود في مواجهة العقوبات الغربية. كما أن التعاون الاقتصادي بين البلدين يساعد روسيا على تجاوز العقوبات المالية المفروضة عليها.
أضف إلى ذلك، ما يمثّله التلاقي الروسي الصيني من تحديات للسياسة الأمريكية؛ فالولايات المتحدة، التي تعتبر الصين الخصم الاستراتيجي الأكبر وروسيا تهديدا أمنيا، تجد نفسها في موقف صعب. فالتقارب الروسي الصيني يحد من فعالية العقوبات الغربية، ويدفع البلدين إلى ابتكار آليات اقتصادية وعسكرية بديلة.
هذا، فضلا عن التداعيات على الشرق الأوسط وأفريقيا؛ من جهة أن كلا البلدين يلعبان أدوارا متزايدة في الشرق الأوسط، حيث تدعم روسيا إيران، بينما توسع الصين نفوذها الاقتصادي في المنطقة عبر استثماراتها الضخمة. هذا التحالف قد يغير موازين القوى لصالح محور مقاومة النفوذ الأمريكي في المنطقة.
في هذا الإطار.. يمكن القول بأن زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا لم تكن مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل كانت إعلانا صريحا عن تحول جيوسياسي عميق، حيث تتصاعد القوة الشرقية في مواجهة الهيمنة الغربية.
التعاون الروسي الصيني، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، يشكل تهديدا للنظام الدولي القائم، ويدفع نحو إعادة تشكيل التحالفات العالمية.