ماذا يميل الناس إلى بعض الأغاني والمقطوعات الموسيقية أكثر من غيرها؟ وهل كل ضجيج إعلامي أو رواج شعبي هو مؤشر سليم على جودة أغنية أو معزوفة ما؟ وأكثر من ذلك، لماذا نستمع اليوم إلى أغنيات وألحان أنتجت قبل زمن طويل، في حين أن أغنيات ضجَّت بها الشبيبة ووسائل الإعلام قبل أسابيع معدودة، تبدو اليوم وكأنها اختفت تماماً من الوجود؟
الدكتور فيكتور سحاب يتناول الأنماط الثلاثة الرئيسة في تعامل الناس مع الموسيقى وتقييمهم لها، الذي يتراوح بين ردة الفعل الأولية والدراسة التحليلية المتأنية قبل إطلاق الأحكام.
حين يستمع الناس إلى أغنية جديدة، تختلف الآراء في العمل الموسيقي كثيراً. أما سبب هذا الاختلاف أو أسبابه، فهي أن لكل مستمع حافزاً للاستماع إلى الموسيقى، قد يختلف عن حوافز الآخرين، ولكل ثقافته وميله واختزانه الفني.
وفي الإمكان، من باب الاختصار، أن نصنّف الناس في تقييم الأغنية أو العمل الموسيقي، إلى ثلاثة أصناف كبيرة.
• الناس الذين يسمعون الموسيقى للتسلية والمتعة الآنية العابرة، سعياً في الترويح عن النفس. وهؤلاء هم العامة الغالبة.
• الناس الذين يشتغلون في النقد الموسيقي أو الإعلام الذي يتعاطى شؤوناً عامة، منها الموسيقى والغناء. وهم قلة مؤثرة في المجتمع وفي آراء العامة من جراء مهنتهم.
• وثمة ناس أعلى مرتبة في مراتب التقييم الموسيقي، هم فئة الباحثين أو الموسيقيين الجادين أو المؤرخين، الذين يستندون في رأيهم إلى عوامل يُفترض أنها موضوعية أكثر من الفئتين السابقتين في الإجمال. وهؤلاء قلة بين القلة.
المستمع العادي.. هل يلام على قلة خبرته؟
أما الفئة الأولى، ففيها نسبة عالية جداً من الفتية والفتيات الذين يندر أن تكون لديهم ثقافة موسيقية، أو خبرة في الاستماع، أو أن يكون لديهم إلمام ذو شأن بعوامل التقييم الموسيقي وعناصره. ويغلب على آرائهم حين يُظهرونها، الإعراب عن انطباع أول بعد أن يسمعوا أغنية أو مقطوعة موسيقية. وقد يكون هذا الانطباع ذا أثر عابر، لكن معظم ما يُسمَع من هذه الفئة أنها تظن في المعتاد أن انطباعها الأول هو الرأي النهائي، الذي قد يتغير في الغد. ولا تلام هذه الفئة بالطبع في استعجالها الرأي، ولا تحاسَب في إبداء آراء قد يراها العارفون خاطئة. فالمسؤولية بمقدار المعرفة، في مثل هذه الحال. والعتب على الثقافة العائلية والمنزلية، أو الإعلامية، أو المدرسية المقصّرة.
وفي كثير من الحالات، يكون انطباع المستمع العادي سليماً حتى من اللحظة الأولى، لا سيما إذا كان قد نشأ في بيت أو بين صحب يسمعون الموسيقى الجيدة، وقد تدربوا على التمييز السليم بالسليقة والحس الفني العفوي، بين الغث والسمين، فيما يسمعون، من دون أن تكون لديهم بالضرورة معرفة بالعناصر العلمية أو الذوقية التي تؤهل المرء لإبداء رأي أقرب إلى «الصواب».
دور المناخ الاجتماعي
لكن كثيراً ممن يصنَّفون في هذه الفئة، يتأثرون، لا سيما في سن المراهقة، بمظهر مغنٍ أو وسامته أو قَصة شعره، وما إلى ذلك. وفي كثير من الأحيان تكون العوامل الاجتماعية أو السياسية ذات أثر في انحياز مستمعين شبان، فيغلب على رأيهم تعظيم أعمال فنية، لأسباب ليس منها الجودة الموسيقية. فمن العوامل الاجتماعية المنطقة أو البيئة المدرسية، ومن الأسباب السياسية الانتماء إلى حزب ما. وفي أحيان كثيرة شهدت الساحة الفنية موضة موسيقية كاسحة، من أهم عوامل شيوعها التحول التاريخي الاجتماعي، مثل ظهور الأمريكي إلفس بريسلي، بعد الحرب العالمية الثانية، أو ظهور فريق الخنافس «البيتلز»، عند تقلص السلطة الإمبراطورية البريطانية، بعد حرب السويس. لقد كان الجو العام في هاتين الحالتين مهيئاً بل تواقاً لتغيير ما في المزاج الموسيقي، عبَّر عنه نَفَسَان جديدان، فرحب الجيل الجديد، فيما كان الجيل القديم أشد تحفظا. لم يكن أنصار بينج كروسبي أو فرانك سيناترا مستعدين للتغيير، الذي عبر عنه بريسلي في الولايات المتحدة، لكنه فرض نفسه، بعوامل اجتماعية وتاريخية لا تقاوَم. وذلك تماماً ما حدث في فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، حين انزوت لوسيان دو ليل أو اعتزل موريس شيفالييه، وظهر في الجيل الجديد جورج براسان ثم إيف مونتان وجيلبير بيكو وإديث بياف وبعدهم شارل أزنافور وجاك بريل، مستفيدين من تعبيرهم عن مزاج العصر، بعد الحرب العالمية الثانية، فيما كان عصر ما بين الحربين ذا نكهة أخرى.
لقد حظي الشيخ سيد درويش بانتشار واسع لدى الجمهور العربي، منذ البداية. لكن لا بد من الاعتراف بأن بعض انتشاره، بل كثيراً منه، كان لأسباب اجتماعية وسياسية وتاريخية، وأن قيمته الموسيقية انتظرت بعض الوقت لتحظى بالاعتراف الأكاديمي والفني والتاريخي الذي تستحق. وكان لمرحلة سعد زغلول والنهوض الوطني في مصر، مع ظهور مرحلة طلعت حرب، أثر ولا شك في بزوغ فجر محمد عبد الوهاب وأم كلثوم بمزاجهما الفني الجديد، بل ان ظهور وسائل انتشار غربية حديثة، مثل الإسطوانة والإذاعة ثم السينما، أسهم كثيراً في دعم هذا الانتشار بأدوات شديدة الجدوى. غير أن الزمن أعاد فيما بعد تقييم هذين الفنانين التاريخيين، فأنصف فنهما لفنهما بالذات، ونفى القول إنهما موضة وتنقضي، مثلما ستنقضي موضة إثر أخرى فيما نسمعه اليوم من غناء.
إننا نظلم الجيل الجديد إذا عممنا بالقول إن كل جيل جديد ينحاز لأسباب غير موسيقية إلى أعمال غير ذات قيمة موسيقية. فكم مرة ظهر في التاريخ، في كل العصور وفي كل الشعوب، موسيقيون شبان، اشتقوا طريقاً عبقرية، خرجت على المألوف والتقليدي، فانقلب عليها المحافظون، والتف حولها الشبان من التواقين إلى تعبير طازج، وثبت فيما بعد أن النمط الجديد هذا كان مفترقاً خطيراً وعظيماً في الفن. ويُروى الكثير في المقاومة الشديدة التي واجهها الشيخ سيد درويش، لدى إدارة معهد الموسيقى الشرقي، لأسباب سياسية، إذ كان معارضاً للملك فؤاد الأول، لكن مصطفى رضا بك وصَفَر علي، وكانا من الأعيان والمسؤولين في الوقت نفسه عن المعهد، كانا أشد معارضيه الموسيقيين. وقد واجه تلميذه محمد عبد الوهّاب فيما بعد، معارضة هؤلاء الشديدة، لا لمواقف سياسية، بل لتجديده في الموسيقى، وكانوا محافظين متشددين.
وفي أوروبا، يسجل تاريخ الموسيقى الكلاسيكية أن موتسارت وبيتهوفن لم يكونا يحظيان بحماسة كبيرة لدى شرائح معينة من المستمعين، المتمسّكين بالأساليب التي سبقت من الموسيقى الكلاسيكية، في موسيقى فيفالدي وباخ. بل ان بيوتر تشايكوفسكي، كبير الموسيقيين الكلاسيكيين الروس، الذي مات في سنة 1893م، لم يحظَ باعتراف جمهرة النقاد الغربيين، إلا في منتصف القرن العشرين. وحتى في روسيا نفسها، كان بعض النقاد في عصره، يصفون بعض أهم أعماله بأنها «عادية» أو حتى «متصنّعة». وحين قدم سمفونيته الأخيرة السادسة، قابلها الجمهور في عرضها الأول، بصمت وفتور وعدم فهم، ومات تشايكوفسكي بعد 9 أيام، ثم أعيد تقديم هذه السمفونية بعد 20 يوماً، فلقيت استقبالاً حماسياً، وخلدت في سجل الموسيقى رفيعة المستوى.
والمشكلة في هذه الحال، هي أن كثيراً من الموسيقيين غير الموهوبين، صاروا اليوم يتسترون بهذه الحجة ليزعموا أن التاريخ سينصفهم، أي أنهم مثل سيد درويش أو تشايكوفسكي، فلا تدري إن كان التاريخ سيقف إلى جانبك أم إلى جانبهم.
ومع تحفظنا هذا، ينبغي ألا ننحاز لكل رأي يبديه الجيل الجديد في ترحابه بموسيقي ناشئ أو إشاحته عنه، فهذه الفئة من الناس (أي المستمع العادي) هي مبدئياً، أقل الفئات اتباعاً للمعايير المعتمدة في التقييم الموسيقي، حين تنحاز إلى هذه الموسيقى أو تلك. وإذا كان رأيها ليس خاطئاً في كل الأحوال بالطبع، فإنه لا يؤخذ به على أنه الباب الرسمي إلى دخول أي مؤلف موسيقي التاريخ. فللتاريخ بابان يدخل منهما العمل الموسيقي: الزمن والقدرة على مجالدته، وهذا صراع لا نعرف نتيجته النهائية اليوم، ولا بد من الانتظار، ثم العنصر العلمي الذي يجيد فهمه مؤرخو الموسيقى ودارسوها الجادّون، أكثر من غيرهم.
النقَّاد والإعلاميون
يروي تاريخ الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية كثيراً من الحوادث ظهرت فيها روائع خالدة، فنعتها النقاد بأقذع الصفات، على أنها لا تستحق الترحاب والتقريظ، أو قابلها الجمهور بالإشاحة أو الرفض. ففي حادثة تاريخية، مطلع تشرين الأول/أكتوبر 1917، غنى الشيخ سيد درويش بين فصول مسرحية للشيخ سلامة حجازي، وكان استقبال الجمهور باهتاً، بل مُعرِضاً. فخرج الشيخ سلامة ليؤنب الجمهور على موقفه، وقال قوله الشهير إن الشيخ سيد سيكون خليفته على عرش الغناء.
والحقيقة أن كثيراً من النقاد الموسيقيين يستحقون كل احترام، لأنهم يوفرون مادة أولية ضرورية لمؤرخي الموسيقى، بوصفهم الموضوعي وتقييمهم المضيء. لكن هؤلاء قلة، منهم كامل الخلعي وقسطندي رزق، في أوائل القرن العشرين، وكمال النجمي، في نصفه الثاني. وصار الناقد الموضوعي الذي يستحق أن يؤخَذ مرجعا، أقل من القلة، لا سيما في عصر انتشار الأدوات الإعلامية الفضائية، إذ صار إنتاج البرامج واستقبال الفنانين، بما «يقتضيه» الإنتاج من مسايرة وملاطفة، بل ومهادنة وربما تزلف، بعيداً جداً عن معايير التقييم المتجرد الصريح والموضوعي.
في النصف الأول من القرن العشرين، مثال شديد الوضوح، هو قصة مصطفى القشاشي، صاحب مجلة «الصباح»، مع محمد عبد الوهّاب. إذ يقال إن المجلة أنشئت لغرض واحد هو مهاجمة المطرب الناشئ عبد الوهّاب في سنة 1927م، أو على مقربة من هذه السنة. وقامت المجلة بالمهمة «خير» قيام، إلى أن تحوّل صاحبها إلى مصادقة عبد الوهّاب، فتحوّلت المجلة إلى الدعاية للموسيقار الشاب. كذلك تروى قصة أم كلثوم التي صارت المجلات الفنية تلوك سمعتها، بتحريض قيل إن وراءه منيرة المهدية، التي خشيت صعود المطربة الشابة وخطر مزاحمتها على عرش الغناء. في كلا الحالين لا يمكن الركون إلى نقد موسيقي موضوعي.
أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فالمشكلة هي أنك تكاد لا تجد بين النقاد الفنيين من يؤخذ برأي له، إلا تحت عدسة مجهر كشّاف. وفي أحسن الحالات، تحفل المجلات الفنية بصور وروايات، لكنها نادراً ما تحتوي نقداً موسيقياً، يُعتَدّ به. صارت الصداقة بين الصحافي والفنان، هي المعيار الذي تقاس به قيمة الناقد، لا النقد نفسه وتجرده من الغرض. وكلما توثقت العلاقة بين الكاتب والفنان، ازداد احتمال انحيازه وابتعاده عن التقييم السليم للموسيقى، وتحسنت مكانته لدى صاحب المجلة أو الوسيلة الإعلامية، لأنه «مقرّب» من الفنان. والقرب من الفنان، في المبدأ، هو الصفة التي يجب أن تكون موضع تحفظ وخشية على «الموضوعية».
ومن أسباب تقلص قيمة النقد الموسيقي، أن تزايد عدد المجلات والإذاعات والأقنية التلفزيونية، أخل بميزان العرض والطلب، في سوق الكتابة الفنية. فصار عدد الكتَّاب المطلوبين لملء صفحات الفن في المجلات أو ساعات البث الإذاعي أو التلفزيوني، أكثر بما لا يقاس من الكتَّاب المؤهلين، أو الذين يمكن تأهيلهم بالوتيرة الطبيعية، في المعاهد والمؤسسات التربوية التي تخرّج النقاد. وأدى اشتداد الطلب حتى صارت هذه المعاهد نفسها تستعجل تخريج طلابها، وتختصر في برامجها جرعة الثقافة الغزيرة المطلوبة للمهمة النقدية.
المؤرخون والخبراء للموضوعية والتحليل العلمي
التاريخ هو الحدث، فمن دون حدث لا تاريخ. وهذه العبارة تشرح كل شيء في أساس الفرق بين النقد السليم في الفن، وبين النقد المنحاز الفاقد القيمة. فالحدث المركزي في التاريخ الفني أو النقد الموسيقي، يجب أن يكون الأغنية أو المقطوعة الموسيقية. والناقد الجاد أو المؤرخ هو الذي يبني نقده أو روايته التاريخية على محور أساسي، هو تقييمه الأغنية أو المقطوعة، لا على صداقته أو عداوته لهذا الفنان أو ذاك، ولا على أي معيار آخر، مثل مصالح حزبه أو بلده أو مجلته أو محطته الإذاعية أو التلفزيونية.
هذا شرط ضروري لكنه ليس شرطاً كافياً بالطبع. فالتقييم السليم للموسيقى، أي التقييم الذي يُدخل كلام قائله في مرتبة التأريخ الفني أو في مصاف النقد الجاد، لا بد له من التجرّد عن كل غرض سوى الغرض الفني. لكن بعد هذا، ما المطلوب ليكون ثمة نقد موسيقي جيد، وتأريخ فني يقاوم مر الزمن؟
إذا استعرضنا الكتابة الفنية التي تحتويها خزانتنا التأليفية، أو خزانة الشعوب الأخرى، ولا سيما أوروبا التي كان لها باع طويل في النقد والتأريخ الموسيقيين، فإننا نجد أن النقد الذي ارتقى إلى مرتبة التأريخ، هو ذلك النقد الذي انطلق من مبدأ معالجة الحدث لا العلاقة الشخصية، ليحلل هذا الحدث، أي ليدرس العمل الموسيقي في مكوناته البنيوية والاجتماعية والتعبيرية وعلاقة كل هذا بالمجتمع الذي نشأ فيه هذا الفن.
وفي تاريخ الموسيقى العربية أمثلة لا تحصى في هذا. وسأكتفي بمثال بعيد زمنه، منعاً لتحريك أي حساسية. فإذا تصفحنا الصحف المصرية الفنية والسياسية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الميلادي العشرين، لوجدنا اسماً شائعاً، يطريه الصحافيون الفنيون بسخاء، هو منصور عوض، في المرحلة التي كانوا فيه كثيراً ما يُغفلون اسم موسيقي آخر، اسمه سيد درويش. ذلك أن منصور عوض كان مديراً فنياً في شركة «بيضافون»، وكان التقرب منه مسألة «ضرورية» في نظر الصحافة ومصالح الجريدة أو المجلة. أما التقرب من سيد درويش، فمسألة موسمية في أحسن الحالات، ولا تحتاج إلى التملق. ومع ان لمنصور عوض فضلاً لا ينكَر في المجتمع الفني، في الموقع الذي كان يحتله، إلا أن أحداً اليوم لا يذكره، فأين ذكره من ذكر الشيخ سيد درويش؟
حين ينقضي زمن، ويصير الفنانون في دنيا الحق، وتزول كل المصالح والصداقة والعداوة، فما الذي سيبقى من نقد اليوم، سوى ذلك الذي ابتعد عن الشخص، واقترب من الموضوع؟ أليست تلك الكلمة (الموضوع) هي أصل النسبة: الموضوعية؟ أوليست الموضوعية هي الضمان الأول لمعرفة القيمة التي نبحث عن قياسها الصحيح، حين نكتب في النقد الموسيقي؟
لقد عالجت أهم المؤلفات النقدية الأوروبية على الخصوص: الشكل والمضمون وتطور الفكر الموسيقي وعناصر السبيكة الموسيقية في العمل. كذلك عالجت علاقة هذه المؤلفات الموسيقية بالتاريخ القومي والمزاج العام، وتطور الآلة الموسيقية وأثر هذا التطور في المؤلفات نفسها. وحين عولجت حياة الموسيقيين وسيرهم، فإنما عولجت من باب أثرها في الموسيقى نفسها، لا من باب «الحدوتة» أو من باب تحقير موسيقيّ ما لتعظيم آخر. وفي كثير من الحالات كان للكتابة الجادة في نقد الموسيقى، أثر حاسم في توجيه التربية الموسيقية، لأن المؤرخين الجادين كشفوا في هذه السيرة أو تلك، سر نبوغ يرتكز إلى تربية معينة، آتت ثماراً منشودة.
ولنضرب مثلاً، من أجل التوضيح والاختصار. إنه مثل في النقد الموسيقي الذي يتناول الشكل الموسيقي: في عشرينيات القرن العشرين، كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة عامية هي: «في الليل لما خلي»، فلحنها محمد عبد الوهّاب، وكانت فتحاً موسيقياً أسهم في جانب من التحول التاريخي الذي شهدته الموسيقى العربية. هل يكفي أن المستمع أحب الأغنية لنقول بخلودها؟ لا نظن ذلك. فلخلود هذه الأغنية أسباب أخرى، لا يكون النقد أو التأريخ جيداً إذا لم يشرحها.
وإليكم بعض هذه الأسباب:
لقد كتب شوقي القصيدة في 15 بيتاً، فجعل لكل ثلاثة أبيات قافية. وبذلك صارت القصيدة خمسة أجزاء، من حيث شكل الشعر. فماذا فعل محمد عبد الوهّاب حين هم بتلحين القصيدة؟
قسم عبد الوهّاب القصيدة هو أيضاً إلى خمسة أقسام التزاماً بشكلها الشعري، فجعل الأبيات الثلاثة الأولى مرسلة بلا إيقاع، وموصولة غناءً لا لازمة موسيقية فيها بين البيت والبيت. وفي الأبيات الثلاثة الثانية جعل اللحن مرسلاً أيضاً، لكنه أضاف بين البيت والبيت التالي لازمة موسيقية تفصلهما. في الأبيات الثلاثة التالية أدخل الإيقاع، وجعل اللوازم الموسيقية بين الأبيات على آلتين موسيقيتين، وفي الأبيات الثلاثة الرابعة عزفت اللوازم الموسيقية آلتان موسيقيتان أخريان. وفي القسم الخامس والأخير، بلغ الذروة في التفكير الموسيقي، إذ قسم المقدمة الموسيقية التي بدأت بها الأغنية، وجعل أقسامها لوازم موسيقية بين الأبيات في القسم الخامس هذا. وإذا أضفنا إلى كل هذا عظمة التعبير الغنائي وجمال الألحان، فإن الإطراء لا يعود سخياً على الإطلاق، بل مستحقاً تماماً.
ذلك نمط منشود من التقييم السليم في الموسيقى، لأنك حينئذ تكون قد تناولت «الموضوع» ومكوناته، وأظهرت الجهد البنيوي فيه، ورقي التفكير الموسيقي، إضافة إلى الجمال الذي قد يلمسه المستمع العادي. وهذا مثال، لكن الأمر لا يقتصر على هذا الجانب بالطبع، في أي تقييم. فثمة أمور موضوعية كثيرة تتعلق بالشكل والمضمون، وكل عناصر تكوين العمل الموسيقي. وذلك أمرٌ شرحه يطول.
نقلا عن مجلة القافلة