“وجودك داخل الحدث شيء لا يقارن”، بهذ المثل الإنجليزي علق الأستاذ محمد حسنين هيكل على الرسالة التي تلقاها من أستاذ التاريخ الإنجليزي الشهير السير ستيفن رنسيمان صاحب ثلاثية “تاريخ الحملات الصليبية”.
كان رينسمان قد أرسل إلى هيكل رسالة عبر صديقهما المشترك السفير اللبناني نديم دمشقية، قال له فيها معلقا على كتابه “الطريق إلى رمضان”: هناك قول شائع لعلك تذكره، يقول إن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون، بمعنى أننا نسمع روايات عما جرى من وقائع منقولة لنا بالسماع والتواتر عن هذا أو ذاك من الناس، ومعظمها مكتوب بأثر رجعى يخلط الوهم بالحقيقة إلى درجة تتركنا مع نوع من الفولكلور الأسطورى يعذبنا فرزه كثيرا. ولقد كان ما أثار اهتمامى فى تجربتك أن التاريخ عندك له آذان وله أيضا عيون، وهذه تجربة أتمنى لو أناقشها معك إذا خطر لك يوما أن تعود إلى أكسفورد.
كتاب الطريق إلى رمضان الذي ألفه هيكل وعلق عليه السير ستيفن رنسيمان صاحب ثلاثية “تاريخ الحملات الصليبية”
على ناصية التاريخ
كشف هيكل في إحدى أحاديثه التليفزيونية عن رسالة رينسمان، في سياق حديثه عن بداياته كصحفي ينقل الأخبار من قلب الحدث كما سمعها ورآها، ولم يكتف بما تنقله له المصادر. كلمات المؤرخ البريطاني وصّفت بشكل دقيق كيف صنع الأستاذ أسطورته، فهو الصحفي الذي يذهب إلى حيث يُصنع التاريخ، يقف على الأحداث، يسمع ويرى ويدون ويضع كل ذلك في سياقه لتخرج قصة صحفية تتحول إلى مرجع تاريخي يعود إليه الباحثين.
في تجربة تغطيته لمعركة العلمين لـ”الإيجبشيان جازيت” استقر عند هيكل أن “ضبط السياقات هو الأساس فى صياغة القصص الإخبارية الموسعة والتحقيقات الاستقصائية وفى الكتابات السياسية المستطردة.. لكن التأكد من سلامة المعلومات وتسلسلها ودقتها عبر مصادر مطلعة يسبق إحكام الصياغات التى تتوج بجماليات اللغة وإتقان الصنعة ما هو صحيح ودقيق ومؤكد”، كما استقر أيضا عنده أنه “لا قيمة لقصة إخبارية مهما بالغ صاحبها فى فنياتها ما لم تكن مستندة إلى معلومات صحيحة وأخبار تأكدت سلامتها.. ولا اعتبار لمقال سياسى ما لم يؤسس رؤيته على بنية معلومات محققة فى موضوعه”، على ما نقل عنه تلميذه عبد الله السناوي في كتابه “أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز”.
الكاتب عبد الله السناوي وكتاب أحاديث برقاش
اقتراب هيكل من قادة ثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر، فتح عليه أبواب النار سواء من معارضيها أو من مجايليه في بلاط صاحبة الجلالة، خاصة بعد أن افترقت الطرق واختلف مع أنور السادات عام 1974، اُتهم بأنه أقصى أساتذته وزملائه لينفرد بمقعده إلى جوار السلطة، لكن الحقيقة أن السلطة هي التي سعت إلى “الجورنالجي” لأن لديه دائما ما يقوله أو ينقله من مواقع الأحداث.
نار فوق الأرض المقدسة
حتى وهو في بدايات مشواره الصحفي، لجأت السلطة إلى هيكل لتعرف وتتوثق، وهنا يروي السناوي في كتابه أن هيكل ما أن دخل إلى “أخبار اليوم” في مارس عام ١٩٤٨ حتى أخبره كل من قابله أن الأستاذ مصطفى أمين يسأل عنه.. وما أن أطل عليه حتى بادره: “أين أنت.. النقراشى باشا يطلب أن يراك الآن”.
كان رئيس الحكومة محمود فهمى النقراشى مشغولا بما يجرى فى فلسطين، أراد أن يستقصى من الصحفى الشاب العائد توا من مسارحها الملتهبة عن خلفيات ما يحدث.. سأله عن المستعمرات اليهودية وما رآه من استعدادات لحرب وصفها بأنها “نذر شر”.. وما إذا كان صحيحا أنه شاهد بنفسه فى إحدى المستعمرات أكثر من ستين مدرعة على ما روى فى سلسلة تحقيقاته “النار فوق الأرض المقدسة”.
لم يكن النقراشى باشا مقتنعا بما قرأ وسمع: “أنت يا ابنى الكلام ده جبته منين؟.. أنت تبالغ فيما تقول والأمور ليست بالخطورة التى تتحدث عنها.”
لم تكن مصر قد قررت دخول الحرب.. والرجل الذى أُرسلت قواته إلى فلسطين بعد أسابيع قليلة يتصور أن ما قرأه وسمعه مبالغات صحفى شاب يصوغ مشاهداته بتوابل إثارة تتطلبها مهنته.
هيكل في حرب فلسطين
بعدها دعاه رجال دولة وسياسيون تقليديون آخرون إلى لقاءات مماثلة للاستماع إلى ما عنده من شهادات إضافية على ما نشره من تغطيات لصراعات وصدامات فى المنطقة، وكل واحد منهم لديه ما يريد أن يستقصيه، ففلسطين ونارها تضغط على النقراشى باشا، وإيران وبركانها تلح على إسماعيل صدقى باشا.. ونجيب الهلالى باشا وحافظ عفيفى باشا ومحمد حسين هيكل باشا لديهم أسئلة أخرى.
ويضيف السناوي: تبدت هنا مسألة حاسمة حكمت مسيرته فى الصحافة والسياسة على مدى عقود تناقضت فى طبائع رجالها وحقائق زمانها “إن أحدا في السلطة أو بقربها لن يسعى إليك ما لم يكن لديك ما تقوله وأن يكون ما تقول عاينته بنفسك فى مواقع الأحداث”.. أبواب صناع القرار ومصادر الأخبار فُتحت أمامه دون أن يقف أمامها منتظرا.
جنود مصريون يقرأون أخبار اليوم في حرب فلسطين
مجرد جورنالجي
ذاع صيت الصحفي الشاب، وأصبح نجما من نجوم الصحافة، وسعى رجال الحكم إلى تقريبه، للدرجة التي جعلته ولأول مرة “يشارك في تسمية بعض وزراء حكومة نجيب الهلالي باشا قبيل ثورة يوليو سنة 1952، ثم راح يتعقب القوة البازغة في الجيش وهي تتحرك لقلب الأوضاع، ولم يكن وجوده يوم 18 يوليو سنة 1952 في منزل محمد نجيب إلا نوعا من هذا التحسس للخطى، بعدها رمى أوراقه كلها مع القوة الجديدة في الجيش، وتابع الرجل الأقوى منذ اللحظة الأولى، واقترب منه عمداً وبإصرار” وفقا لما ذكر الكاتب الصحفي محمد حماد في كتابه “الأستاذ والرئيس”.
الكاتب محمد حماد وكتاب الرئيس والأستاذ
تقدم هيكل في عالم السياسة بقدر ما يتقدم في عالم الصحافة أو بالتوازي، قال مرة ليوسف إدريس: إنه “يمارس السياسة كصحفي”، وظل وفيا لكونه “صحفيا” أولا، عارفا بأن هذه هي نقطة قوته، نقطة تميزه عن الآخرين، وبقي يردد دائماً، بمناسبة وبدون مناسبة: “أنا مجرد جورنالجي”، يضيف حماد في كتابه.
وعن يومياته في “أخبار اليوم” التي انتقل إليها بعدما باع أستاذه محمد التابعي “آخر ساعة” إلى آل أمين، يقول هيكل في كتابه “بين الصحافة والسياسة”: كان الجو العام فى أخبار اليوم غير مستعد على الفور لقبول واستيعاب غرباء من الخارج. وكانت تلك مسألة أسابيع، ثم تحقق الاندماج. وللحق فإن الأستاذ كامل الشناوى كان صاحب الفضل الأكبر فيه. كنت أعرفه من قبل. جلست إلى جواره مرات فى شرفة الصحافة فى مجلس النواب واستهوتنى شخصيته. شاعر وكاتب.. فنان قلب نواميس الكون فإذا النهار نوم وإذا الليل يقظة ومغامرات وحكايات لا أول لها ولا آخر.
في قلب الحدث
حاز هيكل على جائزة فاروق الأول للصحافة العربية لأول مرة عن مجموعة التحقيقات التي كتبها عن وباء الكوليرا، “غادرت القاهرة مع الأستاذ محمد يوسف كبير مصورى أخبار اليوم وذهبنا لنقيم فى منطقة ظهور الوباء بالشرقية، وتقرر عزل المحافظة عن بقية مصر ونحن فيها. وكانت رسائلنا تصل كل أسبوع إلى أخبار اليوم تنقل إلى قرائها صورة شاملة إنسانية للحياة فى ظلال الموت”.
فتحت “أخبار اليوم” الباب أمام هيكل لإجراء تحقيقات صحفية خارج الحدود، فذهب إلى تغطية الحرب الأهلية فى اليونان، وقد شملت كل البلقان، ثم حرب فلسطين من أولها لآخرها، وسلسلة الانقلابات العسكرية فى سوريا، وعمليات الاغتيال الكبرى فى المنطقة من اغتيال الملك عبدالله فى القدس إلى اغتيال رياض الصلح فى عمان إلى قتل حسنى الزعيم فى دمشق، ثم إلى ثورة مصدق فى إيران، “ثم اتسعت المسافات فإذا أنا أغطى المشاكل الملتهبة فى قلب أفريقيا، ثم حرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولى”.
هيكل مع شاه إيران
بعد تلك الرحلة الطويلة التي استمرت 5 سنوات خارج البلاد، عاد هيكل إلى القاهرة، حصل خلالها على جائزة فاروق الأول للصحافة ثلاث مرات، بعدها قرر ألا يتقدم للجائزة ويتركها لغيره.
عرض آل أمين على هيكل رئاسة تحرير “آخر ساعة” وأضافا إليها منصب مساعد رئيس تحرير أخبار اليوم، “قبلت راضياً وشاكراً، وأظن أن الأستاذ التابعى كان أكثرنا سعادة فقد دعانا جميعاً للعشاء ليلتها فى بيته ومعنا أم كلثوم”.
صباح يوم 26 يناير 1952 اتصل أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة بالأستاذ هيكل، يسأله: ماذا تفعل فى مكتبك والشارع المصرى يفور ويغلى؟. “نزلت، فإذا الظروف تتيح لى متابعة حريق القاهرة من اللهب إلى الرماد، وإذا بين من ألقاهم وسط الدخان البكباشى جمال عبدالناصر الذى كنت قد التقيت به لأول مرة فى عراق المنشية أيام حرب فلسطين، ثم زارنى فى مكتبى أكثر من مرة فى أيام تصادف وجودى فيها بالقاهرة: مرة جاء يسألنى عن الانقلابات السورية وما الذى يجرى فيها، ومرة ليسألنى نسخة من كتاب صدر لى وقتها عن أزمة تأميم البترول فى إيران بعنوان «إيران فوق بركان».. ويوم حريق القاهرة كان قد نزل مع غيره من الضباط إلى شوارع العاصمة المشتعلة بالنار بعد أن عجز البوليس عن السيطرة على الموقف، ومن ثم اقتضت الأمور نزول الجيش.
صفحات من كتاب إيران فوق بركان
أيام لا تنسى
ويروي هيكل عن الأيام التي سبقت 23 يوليو 1952 باعتبارها أياما لا تنسى وقال: يوم 18 يوليو التقيت مصادفة بالبكباشى جمال عبدالناصر والصاغ عبدالحكيم عامر ودار بيننا نقاش ساخن حول ما يجرى فى البلاد بين الجيش فيها، كنت فى زيارة للواء محمد نجيب فى بيته، وفجأة دخل عبدالناصر ومعه عبدالحكيم فاجتمعا به وحدهما ثم خرجا وبقيت بعدهما بضع دقائق.. وعند خروجى وجدت الاثنين مرة أخرى وتواصل الحديث. وتحمست أثناء المناقشة وقلت لعبدالناصر ما معناه “إن الجيش عاجز عن رد كرامته إزاء عدوان الملك عليه”، ورد عبدالناصر بالتساؤل عما يمكن أن يفعله الجيش أوليست أى حركة من جانبه يمكن أن تؤدى إلى تدخل بريطانى يعيد فيه الملك فاروق تمثيل دور الخديوي توفيق ويعود فيه الجيش إلى مأساة عرابى؟” وتطوعت فقلت إن الإنجليز لن يتدخلوا لأنهم لا يملكون وسائل التدخل، وأحسست أن عبارتى رنَّت جرساً فى رأس عبدالناصر لأنه التفت إلىَّ وسألنى عن الأسباب التى تدعونى إلى القول بذلك.. كيف أستطيع أن أقطع على هذا النحو بأن الإنجليز لن يتدخلوا، ورحت أشرح وجهة نظرى.
هيكل مع عبد الناصر
ويكمل هيكل رواية الحوار بينه وبين عبد الناصر: “إذا أرادوا التدخل ضد أى حدث يجرى فى القاهرة فليس أمامهم غير احتلال مصر كلها وهم لا يملكون القوات الكافية لذلك، فمعلوماتى أن كل ما لديهم فى منطقة القناة هو فرقة واحدة وهى على وجه القطع لن تستطيع احتلال مصر.. وبدأ عبدالناصر يسألنى بإلحاح فى تفاصيل ما قلت وشعرت أن اهتمامه به أكبر مما يحتمله حديث عابر بين صحفى وبين ضابط فى الجيش.. وأعتقد أنه كان قد حزم أمره ورتب خطته على ما ينوى عمله وراح يدير فى رأسه كل الاحتملات، وإذا صحفى من وسط المصادفات يثير أمامه علناً كل ما كان يدور فى أعماق تفكيره”.
لم يكن حديث عبد الناصر مع هيكل حديثا عابرا، حيث سبقته جلسات، لكن كان لتلك الجلسة وقع مختلف، فهي التي حسمت خيار الرئيس فيما بعد وجعلته يصطفي الأستاذ من بين عدد من كبار المهنة ويقربه للدرجة التي أثارت ضده الضغائن.. “سألنى هل نستطيع أن نواصل الحديث لأن الموضوع يهمه، واقترحت عليه أن نذهب إلى مكتبى فى أخبار اليوم، وكان تعليقه على الفور: لا.. ليس فى أخبار اليوم.. لماذا لا نذهب إلى بيتك؟.. وذهبنا إلى بيتى.. وتحدثنا طويلاً.. واتفقنا على اللقاء مرة أخرى”.
هيكل مع عبد الناصر
ليلة 23 يوليو
حملت المقادير هيكل إلى حيث اللحظة والمكان الذي يتغير فيه التاريخ، إلى الحدث الذي جعل منه “الجورنالجي صانع الحدث والمشارك فيه. تواجد هيكل في الساعة الثانية والنصف من صباح يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 فى مقر هيئة أركان حرب الجيش، وكان قد أصبح مقراً لقيادة حركة الضباط الشبان الذين استولوا على السلطة.
يروي هيكل لحظات تلك الليلة: بدأوا تحركهم فى منتصف الليل، وبعد ساعتين اثنتين كانوا قد حققوا ما أرادوه. وبعد دقائق كنت فى وسطهم.. ورأيت بعينى تاريخ مصر يتغير فى فجر يوم صيف.. اتصلت بأخبار اليوم تليفونياً لأجد عامل التليفون يقول لى إن مصطفى بك يبحث عنى فى كل مكان وهو الآن معه على التليفون.. فهل أريد أن يوصلنى به؟، ولم ينتظر منى رداً وسمعت صوت مصطفى أمين معى على الخط. سألنى: “أين أنت؟” وقلت: لا يهم الآن.. وقال لى: هل تعرف أن ضباطاً فى الجيش تحركوا من ثكناتهم ونزلوا الشارع؟.. وقلت: أعرف.. وسألنى: كيف؟ وقلت ببساطة: لأنى هنا فى مقر قيادتهم.. سألنى عن رقم التليفون الذى أتكلم منه حتى يستطيع أن يتصل بى مباشرة لأن الظرف بالغ الخطورة، ثم أضاف أنه سيذهب به أيضاً إلى الهلالى باشا الذى يهمه فى هذه اللحظة أن يسمع منى.
أخبر هيكل عبد الحكيم عامر أن مصطفى أمين معه على الخط ويطلب رقم تليفون مقر القيادة، فهاج عامر وقال له: لا تعطه الرقم.. إلا أن عبد الناصر قال: لِمَ لا؟… اعطه الرقم.. فنظر إليه عامر منزعجاً وقال عبارة تمس مصطفى أمين، ولم يغير عبدالناصر رأيه وقال لهيكل: اعطه الرقم؟.””أعطيت الرقم لمصطفى أمين.. والتفت بعدها إلى عبدالناصر الذي قال: أتصور أنهم يريدون أن يعرفوا كيف نفكر نحن هنا.. لكننا من خلال أسئلتهم سوف نعرف كيف يفكرون هم هناك”.
عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة مع الصحفيين وفي الخلفية هيكل
ويكمل هيكل روايته: “في فجر ذلك اليوم اتصل بى مصطفى أمين من الإسكندرية مرتين. ثم اتصل بى الهلالى باشا مرتين.. دق التليفون فى المرة الأولى ورفعت السماعة على صوت يتأكد من شخصيتى ثم يقول لى إن دولة الباشا معى على الخط. وجاءنى صوت الهلالى باشا: هيكل.. أنا أعرف أنك فى وضع صعب وربما كنا نحمّلك أكثر مما تحتمل، ولكن بما أن الظروف قضت بأن تكون حيث أنت الآن فى هذه اللحظة فليس أمامنا ولا أمامك إلا أن نحمل مسؤولياتنا. وأنا أكلمك من أجل البلد وأرجو أن يكون ذلك واضحاً لـ”الجماعة” عندك.
سأل الهلالي باشا هيكل: ماذا تريد “الجماعة عندك.. أننى أريد منك أن تسأل من تعتقد أنه يستطيع الرد منهم، ولن أسألك من هو؟”، طلب هيكل من الباشا الانتظار معه على الخط، ونقل إلى عبد الناصر وعامر سؤال الهلالي كما هو، ورد عبدالناصر: قل له إذا أراد أن يعرف ماذا نريد فإنه يستطيع سماعه فى البيان الذى سيذاع بعد نصف ساعة من راديو القاهرة”.
قال الهلالى باشا لهيكل:” طبقاً للمعلومات الموجودة هنا فإن ما تطلبه “الجماعة” هو تغيير وتطهير قيادة الجيش.. فهل تستطيع أن تنقل لهم أننى على استعداد للذهاب الآن إلى القصر واستصدار مرسوم من الملك بتعيين أى ضابط كبير يثقون فيه قائداً عاماً للقوات المسلحة ثم يكون له هو بالتشاور معهم بالطبع أن يجرى ما يرونه من تغييرات وتبديلات. إن التغيير على هذا النحو سوف يتم فى إطار دستورى يجنب البلد مخاطر “الفرقعة” التى ستحدثها إذاعة بيان من الراديو.
نقل هيكل سؤال الهلالى إلى عبدالناصر وكان رده: قل له شكراً.. ولكن الفرقعة مقصودة فى ذاتها أيضاً، “يبدو أن الرد كان مفاجئاً لطبيعة الهلالى (باشا) كمحام وفقيه قانون، فقد سكت لحظة لم أسمع فيها من الناحية الأخرى إلا تعبيرات صوت يهمهم وكأنه يحاول استيعاب معنى ما سمعه ومدلوله.. لكنه لم ييأس أيضاً.. تمالك نفسه ثم سألني: هيكل.. هل من تنقل إليه أسئلتى واحد من المسؤولين فيهم يملك أن يتحدث عنهم؟.. وقلت دون رجوع إلى أحد: نعم.. قال: هل هو اللواء نجيب؟ سمعنا أنه منهم.. قلت: أرجو إعفائى من الرد.
محمد نجيب وجمال عبد الناصر
طلب الهلالي من هيكل أن يسأل “الجماعة” ماذا يطلبون من الوزارة؟ هل يطلبون أن تستقيل؟.. “كان السؤال مفاجئاً لعبدالناصر، لكنه رد بسرعة: نعم… قل له إننا نريد استقالة الوزارة.. فتحت عينى على آخرها فى دهشة ثم وضعت كفى على بوق سماعة التليفون لأقول لعبدالناصر: لكنه رجل وطنى وأمين.. فقال عبدالناصر: ليس هذا هو المهم الآن… قل له أن يستقيل.. ومثقلاً بالأسف نقلت للرجل: نعم هم يريدون أن تستقيل الوزارة.. قال الهلالى باشا: طيب.. طيب.”
ذهب الهلالى بعد ذلك وقدم استقالته وقدم معها نصيحته ورجاءه للملك بألا يسير فى الطريق الذى سلكه عمه توفيق من قبل فيقاوم حركة جيش مصر مستعيناً بجيش أجنبى. و”على أى حال فإن الملك وإن تظاهر بالقبول أضمر شيئاً آخر، فقد جرب بالفعل أن يستنجد بالإنجليز ولم تكن هناك قوات برية كافية فى قواعد منطقة قناة السويس، كما أن المسافة الواسعة من ميناء فاليتا فى مالطة إلى الإسكندرية لم تكن فيها غير مدمرة بريطانية واحدة. وتوالت الحوادث خرج الملك من ميناء الإسكندرية عصر يوم 26 يوليو وانحدرت وراءه شمس النظام الملكى فى مصر إلى مغيب.
ونستكمل الرحلة في الحلقة القادمة ..
صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة