يعد العالم الكبير الدكتور محمد مظهر سعيد أسطورة من أساطير زماننا القديم. ولد الرجل في العشرين من أغسطس من العام 1898، أي في الفترة التي شهدت فتوة وعنفوان الاحتلال الإنجليزي لبلادنا. كان أبوه مهندسًا فرنسي الثقافة، وكانت أمه من المتعلمات المثقفات ويكفي أنها كانت تجيد الإيطالية والفرنسية.
عندما كان الطفل محمد يزور جدته لوالدته التي كانت تقيم في أسيوط، كانت الجدة تقص عليه أخبار أجداده قادة الأساطيل وأمراء البحار الذين استشهدوا دفاعًا عن الملة والدولة، وكانت تخص بالذكر جده لطيف باشا الكبير الذي كان حاكمًا عامًا للسودان قبل الثورة المهدية، وكان من مؤيدي الضباط المصريين ضد حكومة نوبار بل وضد الخديوى ذاته. أما جدته لأبيه، والتي كانت تقيم في بني سويف، فكانت تحكي له عن جده عبد الرحمن كتخدا نائب والي مصر الذي ساند المصريين ضد المماليك، فغضب عليه أمراء المماليك ففر من وجوههم وسكن أرض الحجاز.
وعلى صوت أبيه وهو ينشده الأشعار التي تمتدح شهداء دنشواي الذين شنقهم الاحتلال الانجليزي نشأ الطفل محمد، تلك القصائد الحارة التي سكنت قلبه وأقامت بداخله فلم تغادره أبدًا.
طفل مشاغب يكره المحتل
إذن فقد شب الطفل محمد وهو يحفظ قصائد الرثاء التي كتبها الشعراء تخليدًا لذكرى دنشواي، وعندما التحق بمدرسة عباس الابتدائية بالقاهرة وهو في الثامنة من عمره ، رأي مفتشًا إنجليزيًا فصاح في وجوه زملائه : هذا هو جلاد دنشواي . كان قد حفظ شعر حافظ إبراهيم الذي جاء فيه:
أنت جلادنا فلا تنس / أنّا لبسنا على يديك الحدادا.
وهو بيت من قصيدة هجاء المحامي المصري الشهير إبراهيم الهلباوي الذي كان يدافع عن الإنجليز وقدم مرافعة شهيرة جلبت الإعدام لأربعة من المصريين في مذبحة دنشواي، ولكن ذهن الطفل تعلق بصورة الجلاد مفترضًا أن كل جلاد لابد أن يكون إنجليزيًا
.
صياح محمد جعل الأطفال يصيحون بدورهم ، فخرج الجميع في مظاهرة يقودها محمد رافضة وجود مفتش إنجليزي في المدارس المصرية. وتطور الموقف، ليتم فصل الطفل المشاغب فصلًا نهائيًا لا يحق له معه الذهاب إلى أي مدرسة أخرى.
بعد تفكير عميق في مصير محمد، لجأت الأسرة إلى حيلة عجيبة، لقد رحل الطفل إلى بني سويف ليقيم مع جدته، وهناك قام الأب بتحريف اسم ابنه وقدم شهادة للمدرسة باسم محمد مظهر سعيد الذي كان مهندسًا شهيرًا في ذلك الزمن وكان عمًا للأب. أما الاسم الحقيقي للطفل “محمد حسن سعيد ” فسيختفي إلى الأبد وسنعرف الرجل باسمه الجديد.
في كتابه الجليل “سجين ثورة 1919″، والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن احتفالها بمئوية هذه الثورة الأم، يسجل لنا محمد مظهر سعيد هذه الصفحات من نشأته الأولى، ثم التحاقه المدرسة حيث واظب على حفظ الأشعار الوطنية وخطب مصطفى باشا كامل الذي توفي في العام 1908 وهو في ريعان شبابه، فأقام الوطنيون حفلة تأبين له كان بطلها الطفل مظهر الذي ألقى على الجمع المحتشد خطبة نارية تنادي بحرية البلاد وترثي زعيم الوطنية الشاب.
ربما كان على مظهر أن يتوقف مراعيًا حساسية وضع أسرته أو طامحًا لمكان مرموق تحت ظل شمس الاحتلال، لكن النفحة الإلهية المنادية بالكرامة والحرية جرت في عروق الطفل مجرى الدم. وحين رأي الأب اندفاع ابنه المراهق نحو العمل السياسي الرافض لوجود الاحتلال والداعي لمقاومته بكافة أشكال وأنواع المقاومة، قال له: “تعلم أولًا وتعلم جيدًا ثم افعل بنفسك ما تشاء”. فالتحق مظهر بالمدرسة الخديوية الثانوية لكي يقع الاصطدام المباشر بينه وبين المحتل.
في فضح الإنجليز
في صفحات كتابه التي تبدو كماء النار يقذف “محمد مظهر سعيد” عيون “عبيد الاحتلال” الذين يتغنون بالتعليم البريطاني وبعظمة المدرسين البريطانيين، يفضح تلك الأكاذيب، “لقد كانت بريطانيا العظمى لا ترسل إلا الجهلاء من أبنائها ليكونوا مدرسين للمصريين، فمدرس الجغرافيا كان كالحمار وكذا مدرس التاريخ والرياضيات، ولم يكن يشذ عن تلك القاعدة إلا مدرس من بين كل عشرة مدرسين”. أما المناهج فكانت تسبح بحمد بريطانيا وتهجو المصريين المتخلفين المرضى الحاسدين لبريطانيا.
كان من زملاء مظهر في المدرسة العالم الشهير “مصطفى مشرفة” والتربوي الشهير “إسماعيل القباني” وكان معه أيضًا “السيد محمد يوسف” الذي سيصبح وزيرًا للتعليم في عهد ثورة يوليو. لكن هؤلاء الثلاثة لم يكن لهم نشاط سياسي مثل مظهر فواصلوا طريق التعليم لا يحيدون عنه.
مصطفى مشرفة إسماعيل القباني السيد محمد يوسف
في العام 1914 تقدم مظهر للالتحاق بكلية الطب، فرأي مدير المدرسة الإنجليزي صغر سنه وضآلة جسده فصاح: كيف دخل هذا الطفل إلى مدرستي؟. فرد عليه مظهر بإنجليزية راقية: “لست طفلًا، وهذه مدرسة مصرية وأنت لا تمتلكها”. فما كان من المدير سوى أن ركل مظهر بكل قسوة ليطرحه أرضًا ثم قرر فصله فصلًا نهائيًا.
في هجاء السلطان
ذهب مظهر ليلتحق بمدرسة المعلمين العليا، وكانت بريطانيا قد خلعت عباس حلمي الثاني وولّت حسين كامل سلطانا على مصر، وجرّمت التظاهر وفرضت كل قوانينها على مصر، فأصبحت البلاد مستعمرة إنجليزية كغيرها من المستعمرات. لم يسكت مظهر ورفاقه على هذا التدخل السافر في أحوال الوطن، فكانوا يعقدون اللقاءات في المقاهي هربًا من أعين الشرطة التي تتجسس عليهم، وظل مظهر يحرض زملاءه على الثورة، حتى جاء يوم قال فيه مدرس بريطاني للطلاب “أنعموا يا أولاد أنتم من الآن رعايا بريطانيا شئتم أم أبيتم”. فانبرى له الطالب “محمد حبيب أحمد” قائلًا: “أولا لسنا أولادًا وثانيًا نحن لسنا رعايا. وهنا تدخل مظهر ليقول: “مصريون كنا وسنبقى أما أنتم فمستعمرون”. هاج الطلاب وصرخوا في البريطاني: اخرج من الفصل. فخرج البريطاني مطرودًا لكنه أسرها في نفسه.
وحين قرر السلطان حسين كامل زيارة المدرسة، جّهز مظهر ورفاقه أنفسهم ليستقبلوه أسوأ استقبال، لأنه واقع في غرام المحتل، فراحوا يقلدونه بصوت منّغم “عفارم عفارم” ليصبح السلطان هدفا لسخريتهم، فما كان منه إلا أن تعاون مع أحبابه الإنجليز وأصدر أمرًا بفصل مظهر وحبيب فصلًا نهائيًا.
حاول مظهر ورفيق نضاله حبيب السفر لاستكمال تعليمهما في تركيا أو فرنسا أو لبنان، لكن بريطانيا كانت قد وضعتهما على القائمة السوداء، فسافرا إلى أسوان ليقودا الثورة من هناك، والأسبوع القادم بإذن الله نعيش تفاصيل هذه الثورة كما سجّلها العالم الجليل الدكتور محمد مظهر سعيد.