“اتجمعوا العشاق في سجن القلعة.. اتجمعوا العشاق في باب الخلق.. والشمس غنوة من الزنازن طالعة.. ومصر غنوة مفرعة في الحلق.. اتجمعوا العشاق بالزنزانة.. مهما يطول السجن مهما القهر.. مهما يزيد الفجر بالسجانة.. مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر”
طوال عمري كنت أستمع لأنشودة “مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر” بصوت الراحل الشيخ إمام عيسي، واعتدت أن أرد علي الشيخ بصوت يملؤه الفخر، “ولا حد يقدر”، وكنت أعتقد أنها من كلمات الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، إلى أن جاءت ثورة 25 يناير 2011، وتغني الشعب المصري بتلك الأنشودة، في كل ميادين التحرير، وقتها فقط، عرفت أن الكلمات للشاعر زين العابدين فؤاد.
رحلة مع الأطفال
الشاعر زين العابدين فؤاد، الذي بلغ من العمر سبعة وسبعين عاما، حصل مؤخرا على جائزة من معرض القاهرة الدولي للكتاب في يوبيله الذهبي، عن كتابه “لنا حق” وهو كتاب يضم عددا من القصائد التي أبدعها “عم زين” -كما اعتاد محبوه أن ينادوه- عن حقوق الطفل. وإلى جانب تلك القصائد، يضم الكتاب العديد من رسومات الفنان المبدع الراحل بهجت عثمان، والعديد من صور العرائس التى أبدعتها الفنانة الراحلة بدر حمادة.
يروي زين العابدين فؤاد رحلته مع عالم الطفل، فيقول إن تلك الرحلة بدأت عام 1963، مع تأسيس مجلة للأطفال بعنوان “كروان” والتي كانت تتبع مؤسسة التحرير، وكان يرأس تحريرها الكاتب الراحل نعمان عاشور، وضمت المجلة، عددا كبيرا من الكتاب ورسامي رسوم الأطفال، وكان علي رأسهم الفنان محيي اللباد.، وكان دورى ينحصر في الإشراف على صفحة الشعر واختيار القصائد الشعرية التي يتم نشرها بالمجلة، والتي تتناسب مع كونها مجلة خاصة بالطفل، إلى أن جاء اليوم الذي طالبنى فيه نعمان عاشور، بالكتابة للأطفال، لأكتب أول قصيدة للأطفال.
إلا أن تجربة “مجلة كروان” لم يكتب لها النجاح، حيث جاءت أحداث 1964، الشهيرة “بمذبحة الصحفيين”، والتي تم خلالها استبعاد عدد كبير من الكتاب والصحفيين، وأُغلقت المجلة التي توجه بعض كتابها ورساميها للعمل بمجلة ميكي وسمير.
التجربة الثانية فى الكتابة للأطفال جاءت –كما يقول عم زين، حين قام بكتابة أربع أغاني للأطفال، عن قصة للكاتبة سهير فهمي، وقام بتلحين تلك الأغنيات إبراهيم رجب، وتغنت بها الفنانة صفاء أبو السعود، وكانت وقتها طفلة في العاشرة من عمرها، والقصة كانت عن أمير الشجر، الذي كان يتحدث مع عدد من الشجيرات.
فيناجي أمير الشجر شجرة البرتقال قائلا “يا مدور حتة تدويرة، تدويرة قمر، يا فيونكة صفرا في ضفيرة، من شعر الشجر، اطرح، اطرح، اطرح، يا برتقال، خلي قلوبنا تفرح، وتغني كمان، يا قمر يا مدور، وفصوصك هلال، اتجدعن وزهر، خلي الخضرا شام”
ويحاكي شجر الليمون “طلع الليمون، نزل الليمون من على الغصون، نزل ونط، مدت له إيد، سافر بعيد، ياليمون جديد يا أبو ألف خط، أصفر ساعات، أخضر ساعات، وفيك حاجات، بحرين وشط”
أحلام بريئة
التجربة الثالثة لعم زين مع عالم الأطفال، كانت عام 1982، حين سافر إلى بيروت، وشارك في تنظيم ورش رسم للأطفال الفلسطينيين بالمخيمات الفلسطينية، حيث كان الأطفال- عبر رسومهم – يستعيدون العديد من حكايات جداتهم وذكرياتهن، وعن تلك الورش الفنية للأطفال، تم إنتاج فيلم وثائقي صغير بعنوان “قصة حلم”، عُرض بمهرجان الإسماعيلية للأفلام، وحصل على إحدى جوائز ذلك المهرجان.
التجربة الرابعة لعم زين مع عالم الطفل، والتي جاء منها كتاب “لنا حق”، جاءت عام 1996،وعنها يقول زين العابدين فؤاد: حين سافرت إلى اليمن، والتقيت بمديرة ” إحدى المدارس في صنعاء، وهي مدرسة للفتيات، نظمت بالإشتراك مع الفنان بهجت عثمان والفنانة بدر حمادة ،ورشة تحت عنوان “استخدام الفن في التعلم”، حيث ساهمت بكتابة القصائد الشعرية الخاصة بحقوق الطفل، التي تغنت بها الفتيات، من وراء ستار أسود وهن يحركن العرائس التي قامت بتصميمها الفنانة بدر حمادة، وشارك بهجت عثمان بتصميم البوسترات والرسوم الخاصة بحقوق الطفل.
تناولت تلك القصائد مختلف حقوق الطفل، من الحق في اللعب للحق في المساواة بين الجنسين وحقوق الأطفال من ذوي الإعاقة، وغيرها من حقوق الطفل.
تجربة متأخرة
رحلة نشر كتبه مع الهيئة المصرية العامة للكتاب جاءت متأخرة جدا، كما يقول عم زين: “الهيئة أول مرة تطلب مني نشر ديوان، كنت بقيت فوق السبعين، وكان ديوان، (مين إللى يقدر ساعة يحبس مصر)”، وكان هذا الديوان قد صدر للمرة الأولى عام 1978 عن دار نشر “ابن خلدون” في بيروت، تحت عنوان، “الحلم في السجن”، ولم يدخل مصر سوى عدد محدود للغاية من النسخ عبر مكتبة مدبولي. ثم قامت هيئة قصور الثقافة بنشر ديوان “وش مصر”، تبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب بنشر ديوان “قهوة الصبحية”، ثم كتاب ” لنا حق” عام 2018″.
25 يناير والفن ميدان
ثورة 25 يناير- كما يراها عم زين – هي في حد ذاتها إبداع حقيقي، حيث أبدع الشعب المصري، في اختيار الهتافات ذات الجرس الموسيقي، فهتاف “ارفع راسك فوق أنت مصري”- كما يقول هو عبارة عن مزج لأغنيتي سيد درويش، “انا المصري كريم العنصري”، و”قوم يا مصري”.
ويؤكد زين العابدين فؤاد على تعدد سبل الإبداع في ثورة 25 يناير، فحين كتب الشاعر مصطفي إبراهيم، “فلان الفلاني”، كانت تلك الكلمات إبداعا إنسانيا خالصا، “فلان الفلاني إللي كان يومها جنبي، ساعة لما بدأوا في ضرب الرصاص، فلان الفلاني إللى معرفش اسمه، ودايما بقوله يا بن عمي وخلاص”. ويضيف عم زين، “الفن ميدان” والذي استمر أربعة أعوام متتالية، كان قمة التعبير عن إبداع ثورة 25 يناير، حيث قدم “الفن ميدان” العديد من فرق مسرح الشارع، والعديد من الفرق الغنائية التي تشكلت بعد الثورة، إلى جانب فن الجرافيتي الذي ازدهر وانتشر مع الثورة، بالإضافة لبروز ظاهرة السينما الوثائقية والسينما المستقلة، إلى جانب العديد من الأعمال الأدبية في مجالى الرواية والشعر.
الإبداع بين الحرية والقهر
حول ظاهرة الإبداع والشروط الإجتماعية التي يزدهر فيها، يرى زين العابدين فؤاد أن الإبداع ينمو ويزدهر في مناخ الحرية، إلا أن هذا لم يمنع من بروز العديد من الأعمال الإبداعية في مناخ القهر، وضرب العديد من الأمثلة لأعمال إبداعية أثرت الحياة الثقافية والفنية في مناخات شديدة القهر، مثال أدب السجون، وفي حالات الحروب.
ويروي عم زين عن تجربة “فيكتور جارا” الذي قام بترجمة العديد من أعماله، والذي تم اعتقاله، مع خمسة آلاف من المعتقلين بإستاد العاصمة التشيلية سنتياجو، خلال إنقلاب تشيلي عام 1973، حيث تعرض للتعذيب قبل أن يتم إطلاق الرصاص عليه مع باقي المعتقلين. في إحدى قصائده التي ترجمها شاعرنا يقول “فيكتور جارا” أنا لا أغني، حبا في الغناء، ولا كي أُظهر للناس صوتي، أنا أغني البيانات الأمينة، التي يطلقها جيتاري، وجيتاري ليس شرها للمال أو السلطة، هكذا علمتني ليوليتا، أنا أغني أغنية من أجل قطعة صغيرة من الأرض، صغيرة جدا، لكنها الوطن، أنا أغني أغنية سوف يموت مغنيها، مغنيا”
فيكتور جارا
الإبداع عند عم زين يتعلق في المقام الأول برؤية المبدع ذاته، ويضرب مثالا بتجربة الرسم في السجون، حيث يستخدم الرسامون جدران السجن، ليرسموا عليها ما يحلو لهم. غير انه يعود ليشير إلى أن هناك بعض الفنون مثل المسرح والسينما لا يمكن لها أن تزدهر في غير المناخ الحر.