لا نعرف -على وجه اليقين – سببا وجيها لذلك التركيز الشديد والانجذاب من قبل المؤرخين المصريين والأجانب على حد سواء إلى عصور معينة فى تاريخ مصر، تستأثر باهتماماتهم ودراساتهم التاريخية مثل العصور الفرعونية القديمة أو فترات الحملة الفرنسية و عصر محمد علي ، دون النظر إلى عصور وعهود أخرى لا تقل ثراء وأهمية وتزخر بملامح تاريخية جاذبة لكل مؤرخ يريد ان يصنع لنفسه بصمة وعنوانا في كتابة التاريخ. ومن المؤكد أن هذا الغياب أو التجاهل “التأريخي” لعصور مصرية مهمة إنما يخلق فجوات كثيرة عند التمثّل والاستحضار العام لمجمل تاريخ مصر.
عصور حكم المماليك في مصر تُعدّ من أكثر المراحل التاريخية حضوراً وثراء وازدحاما بالأحداث في المدوّنة التاريخية، لكن المشكلة والمعضلة التاريخية التى تلازم هذه العصور، أنها غالباً ما يُنظر إليها من موقع أو منطلق تفسيري لما حدث بعدها (الاستعمار) أو أنها تتجلّى من خلال التراث الشعبي. وتُعدّ سنوات حكم السلطان قايتباي (1416 – 1496 م) الذي لُقّب بـ “السلطان الأشرف” من أكثر مراحل هذا التاريخ ثراء بالأحداث.
ويدور الكثير من الأدبيات الحديثة التي تتناول أواخر العصور الوسطى وأواخر الحكم المملوكي حول نموذج الانحدار والسقوط، الذي يتتبع ما كان قبل الغزوات العثمانية فيفسر أحداث القرن الخامس عشر بما كان قبلها؛ وفي هذا الإطار يُفهم صعود العثمانيين في إطار كونه هزيمة للمماليك في تجاهل للعديد من أوجه الشبه بين النظامين”.
في كتابها “عوام وسلاطين ..الاحتجاجات الحضرية في أواخر العصور الوسطى في مصر والشام“ الصادر باللغة الإنجليزية تقارب الأكاديمية والباحثة أمينة البنداري، أستاذ مساعد التاريخ الإسلامى وتاريخ الشرق الأوسط فى العصور الوسطى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، تاريخ مصر والشام في الفترة المتأخرة من العصر المملوكي، خاصة سنوات حكم قايتباى المولود عام 1416 والمتوفي عام 1496م والملقب بالسلطان الأشرف ويعد عصره من أكثر عصور التاريخ المملوكى ثراء بالأحداث وحيث تقدّم الباحثة ما بات يعرف بـ”قراءة من أسفل” للتاريخ، حيث تدمج “العوام“ وتدخلهم كعنصر موجود وحاضر في سردها وقراءتها للتاريخ. ترصد البنداري في هذا الكتاب والذي ترجمه إلى العربية المترجم عثمان مصطفى وصدر مؤخراً عن “المركز القومي للترجمة”، التحوّلات الواسعة في أواخر القرنين الرابع عشر والخامس عشر والتي أثرت في مؤسسات الحكم نفسها.
الباحثة: أمينة البنداري وكتابها “عوام وسلاطين”
تتوزع عناوين فصول الكتاب بين “مقدمة: القرن الخامس عشر الطويل”، و”تحوّل الدولة المملوكية”، و”مجتمع متقلب”، و”تعميم الثقافة والاتجاه البرجوازي”، و”بين الشغب والمفاوضات: السياسة الشعبية والاحتجاج”، و”الاحتجاج والخيال الاجتماعي في العصور الوسطى”.
تتناول الكاتبة مختلف التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها السلطة المملوكية والطرق التي تعامل بها الحكام مع هذه التحديات، مثل الاحتكارات التجارية وفرض الضرائب كما تشير إلى كثير من التحديات والأحداث الأخرى مثل انتشار الطاعون، و تخفيض قيمة العملة؛ إذ يظهر أن ردود السلاطين المماليك على هذه الأزمات أدّت إلى تحولات طويلة المدى غيّرت طبيعة المؤسسات المملوكية.
في جانب آخر، تبحث الكاتبة في السكان والتغيّرات الديمغرافية، وتركز على سلطة القبائل البدوية المتزايدة في العديد من مناطق الريف وتأثيرها على مجتمعات الفلاحين والحياة الحضرية. كما تستكشف تحرّك مجموعات عرقية مختلفة من أطراف المجتمع أقرب إلى المركز، وظهور طبقة جديدة من ملاك الأراضي، وهي تغييرات تسبّبت في قلق وتوتر واحتجاجات متكررة في المدن المختلفة.
تلتفت الباحثة أيضاً إلى تعميم الاطلاع الأدبي وتطور الاتجاه البرجوازي، فتنظر في العوامل التي تقف وراء انتشار الثقافة والإنتاج الثقافي، إلى جانب الصلة بين الحراك الاجتماعي والاتجاه البرجوازي.
نماذج الاحتجاجات الشعبية
وفي قراءة لمختلف نماذج الاحتجاج الشعبي، تدرس البنداري الطرق التي تفاوضت بها مجموعات مختلفة في المجتمع المملوكي على مصالحهم مع السلطات، تذهب هنا إلى أن سلوك عامة الناس، لا سيما النخب غير الحضرية، وقراراتهم، واحتجاجاتهم، كانت جزءاً من التحولات التي حدثت في ذلك الوقت وانعكاساً للطريقة التي تشارك بها مجموعات أكبر في المجتمع في سياسات زمانهم.
وتتساءل الكاتبة عمن يكتب التاريخ ولماذا ؟ إذا أمعنا النظر في ذلك السؤال نجد اختلاف ميول كتاب التاريخ وسماتهم الشخصية، ومكاناتهم الاجتماعية، وخلفياتهم الثقافية، و كيف أثرت تلك العوامل بدورها على مايكتبون، فقد كان معظم مؤرخي أواخر العصر المملوكي وأوائل العصر العثماني يكتبون للتعبير عن آرائهم في السياسات الجارية اّنذاك، وربما لتشكيلها أو التأثير عليها أو المشاركة فيها، ولم تكن قضايا السلطة بمنأى عن رواياتهم التاريخية.
وتكشف الكاتبة كيف كان يمكن حتى للأشخاص الذين ليس لديهم وصول مباشر إلى السلطة اللجوء إلى مجموعة متنوعة من الوسائل، بما في ذلك الاحتجاجات والمظاهرات لإسماع أصواتهم بشأن قضايا مثل الضرائب والرسوم والظلم وفساد المسؤولين.
من جهة أخرى، تلفت البنداري إلى تلاعب السلطة بالاحتجاجات في بعض الأحيان وتوجيهها والسماح بها بقدر محدد ،وفى إطار معين من أجل التنفيس وتخفيف الضغط الاجتماعي، مناورات كانت شائعة خلال الفترة المملوكية المتأخرة، بحيث باتت الاحتجاجات محاولات للحفاظ على نظام اجتماعي وتقاليد وامتيازات عرفية راسخة في مواجهة التغيرات والتحولات الاجتماعية العميقة.
وقد وفرت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر والشام خلال الفترة المتأخرة من العصر المملوكي مساحة للمشاركة السياسية وللاحتجاج وفي بعض الحالات كانت هذه الاحتجاجات تسفر عن التفاوض بين السلطة والمحتجين، أو مراجعة لبعض السياسات والقرارات المملوكية كتخفيض ضرائب ما، على سبيل المثال أو إلغائها تماما. وفي حالات أخرى استهدفت الاحتجاجات إعادة ترسيخ حقوق تقليدية أو الحفاظ عليها في مواجهة ما يعتقد أنه تهديد لها. كذلك اتخذت الاحتجاجات، في بعض الأحيان، شكل المقاومة السلبية أو السلوك المناهض.
على الرغم من الاختلاف الكبير بين المجتمعات المعاصرة وتلك التي كانت في العصر المملوكي، فإن هناك ثمة أوجه للشبه نستطيع ملاحظتها في سياقاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية، وحقا ما أشبه الليلة بالبارحة.