*لورانس ديفيدسون، أستاذ التاريخ بجامعة «ويست تشيسر»
*ترجمة وعرض :أحمد بركات
«يعيش الغرب في الفترة الراهنة ما يمكن تسميته بمرحلة جديدة من الوعي بالحق الفلسطيني، ويخوض معركة لتحرير هذا الوعى من مفاهيم وادعاءات زائفة تخص اسرائيل وفلسطين. فقد رزح الغرب ردحا من الزمن تحت وهم ’ليبرالية الدولة الإسرائيلية‘، عندما كان الصهاينة يسيطرون على رسالة العلاقات العامة على المستوى الشعبي. عندئذ تلقى الناس السرديات الوهمية لبناء دولة إسرائيل – مثل تلك التي قدمها ليون يوريس في روايته Exodus (الخروج) – كمسلمات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. لكن هذه الأوضاع بدأت تتغير شيئا فشيئا بعد حرب 1967 وقرار إسرائيل الاحتفاظ بمزيد من الأراضي الفلسطينية».
هكذا يبدأ لورانس ديفيدسون، أستاذ التاريخ في جامعة ويست تشيستر، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، مقالته التي حملت عنوان «Anti-Semitism Vs. Anti-Zionism in France» (معاداة السامية في مقابل معاداة الصهيونية في فرنسا). مضيفا : «أن دولة إسرائيل كانت بالطبع كيانا عنصريا تم تصميمه من أول يوم لاستيعاب فئة واحدة فقط من البشر؛ أما الآن، فقد أماطت تناقضات الاحتلال في حقبة ما بعد الحرب- ولا تزال- اللثام عن هذه الحقيقة، وانتهت على إثر ذلك تلك الصورة الخيالية التى سوقها كثيرون فى العالم الغربى لإسرائيل كمشروع ديمقراطي تاريخي، وتكشفت أمام أفراد المجتمع الغربي، خاصة من اليهود، حقيقة إسرائيل العنصرية. ونتيجة لذلك، فقدت إسرائيل إلى حد كبير معركة العلاقات العامة على المستوى الشعبي في العالم الغربي. رغم ذلك، لا يزال الصهيونيون قادرين على الاحتفاظ بالدعم المالي والعسكري لإسرائيل».
الصهاينة وتغيير اسلوب المعركة
بعد أن تكشف جزء كبير من الحقيقة ولمواجهة النقد الشعبي ضد إسرائيل، لجأ الصهيونيون إلى تغيير تكتيك المعركة، وذلك من خلال تكريس سلطتهم في دوائر النخب الحاكمة الغربية لتجريم أي خطاب من شأنه أن يُبرز الطبيعة العنصرية للدولة الصهيونية. وتكمن المناورة هذه المرة في وضع معاداة الصهيونية ومعاداة السامية في كفة واحدة. ففي 20 فبراير الماضي، ألقى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خطابا أمام “المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا” (CRIF). كان موضوعه «عودة معاداة السامية».
بالفعل – كما يؤكد ديفيدسون – شهدت حوادث معاداة السامية في فرنسا زيادة لافتة على مدى العقدين الماضيين. لكن الرئيس الفرنسي لم يحاول تحليل أسباب هذه الظاهرة، وبينما راح يؤكد أن المعادين للسامية “غير جديرين بالجمهورية” (France’s Jewish Community Looks to Macron for Answers After Series of anti-Semitic Crimes)، لم يلتفت إلى حقيقة تاريخية مفادها أن معاداة السامية كانت قوة رئيسة وفاعلة في فرنسا على مدى مئات السنين، وعبر أشكال متعددة من الحكم الفرنسي. وعلى مدى التاريخ تعرضت هذه الحركة لموجات مد وجذر.
قراءة تاريخية
يتتبع ديفيدسون في جزء مهم من مقالته تاريخ هذه الحركة في فرنسا خلال العصور الوسطى التي سادت فيها الثقافة الكاثوليكية الاستبدادية. فبينما كانت فرنسا الثورة في القرن الثامن عشر (الفترة التي اتسمت بمعاداة رجال الدين) أول دولة أوربية تحرر اليهود، إلا أن معاداة السامية لم تختف مطلقا. ومرة ثانية اشتد عودها وزادت قوتها إبان قضية دريفوس في نهاية القرن التاسع عشر، وتحت حكم نظام فيتشي الموالي للنازية في أربعينيات القرن الماضي. ومن ثم فإن الحضور الذي يتمتع به المعادون للسامية اليوم في فرنسا، الذين يعادون اليهود لمجرد كونهم يهودا، «لا يجب أن يكون مستغربا»، على الأقل من قِبَل الرجل الذي يقبع على قمة السلطة السياسية.
ويشير ديفيدسون إلى أن آخر اندلاع لأعمال عدائية ضد اليهود في فرنسا كان نتيجة عوامل تاريخية حديثة فشلت معظم الحكومات في مواجهتها. وقد أدى هذا الفشل إلى تفاقم مشاعر الاستياء ضد اليهود الفرنسيين، خاصة الصهيونيين. ورغم ذلك، فإن هذه المشاعر “لم تكن منتجا لمعاداة السامية”. من هذا المنطلق يفند ديفيدسون ما ذكرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية (France’s Jewish Community Looks to Macron for Answers After Series of anti-Semitic Crimes)، عن أن «معاداة السامية في فرنسا تنتشر في الغالب في أوساط المسلمين الراديكاليين».
وبينما يتحفظ ديفيدسون على المسلمين «الراديكاليين» ووصف مشاعرهم بـ «معاداة السامية»، إلا أنه يشتبك في الجزء التالي من مقالته مع قضية «المعاداة» والأسباب التي تفرضها. وهنا يقول «ربما يرجع ذلك إلى أن فرنسا عاملت مواطنيها من أصول عربية بشكل سيئ للغاية، بينما تعلن صراحة تأييدها المستمر لدولة إسرائيل التي تعامل سكانها العرب بصورة أسوأ».
ثقافة الحرب ضد المسلمين
تمتلك فرنسا تاريخا استعماريا في العالم العربي، وقد خاضت معركة دامية للمحافظة على هيمنتها على الجزائر. ومع نهاية هذه الحقبة في عام 1962، خلفت فرنسا وراءها 150000 جزائري كانوا يقاتلون إلى جانب قواتها، وحالت حكومتها في ذلك الوقت دون هجرة هؤلاء. ولكن، بسبب تعاطف بعض القادة الفرنسيين، تمكن بضعة آلاف من الهرب بطريقة غير شرعية، وفور وصولهم قامت السلطات الفرنسية باحتجازهم في مخيمات بدائية نائية في الريف الفرنسي .(France’s Algerian shadow)، وعندما سمح لهم بالخروج من هذه المعسكرات، ظلوا يعانون من سياسات العزل والتمييز. وقد طالت هذه السياسات أيضا المهاجرين الأفارقة والشرق أوسطيين الذين نجحوا في الوصول إلى فرنسا.
ويدلل ديفيدسون على ذلك بما يسميه بـ «ثقافة الحرب ضد المسلمين» التي ظلت تهيمن على الأجواء السياسية والاجتماعية، والتي عبرت عن نفسها في التعامل مع الحجاب الإسلامي والطعام ’الحلال‘ باعتبارهما خطرا يهدد الثقافة الفرنسية التقليدية. وينبع غضب المواطنين الفرنسيين من أصول عربية من هذا الشعور بالتمييز، وهم يوجهون غضبهم أحيانا إلى اليهود الفرنسيين.
ويرجع ديفيدسون السبب في ذلك إلى أن كثيرا من الفرنسيين العرب يتم تعريفهم على المستويين السياسي والاجتماعي من خلال الفلسطينيين الذين يعانون سياسات التمييز من قبل المجتمع الإسرائيلي. ويعمق من ذلك ما قدمته فرنسا من دعم لإسرائيل على مدى تاريخها، باستثناء فترة حكم الرئيس شارل ديجول.
الرئيس الفرنسي شارل ديجول
هذا هو التقليد الذي أكده ماكرون في خطابه أمام «المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية»، حيث وعد بجعل معاداة الصهيونية مكافئة لمعاداة السامية بموجب القانون الفرنسي، ويبرر ذلك بأن «معاداة الصهيونية هي صيغة حديثة من معاداة السامية»، وهو ما يفهمه ديفيدسون على أنه «تجريم أي حديث ضد الأسس الأيديولوجية للعنصرية الإسرائيلية في فرنسا، بل واعتبار هذا الحديث نفسه شكلا من أشكال العنصرية».
رسالة إلى الرئيس الفرنسي
في هذا السياق، يورد كاتب المقال رسالة مفتوحة بعث بها المؤرخ الإسرائيلي «شلومو ساند» إلى الرئيس ماكرون في 8 فبراير الماضي يستنكر فيها هذا التوجه (An Open Letter to Emmanuel Macron).
في هذه الرسالة يؤكد «ساند» أن إسرائيل الصهيونية ليست جمهورية على النموذج الغربي، و«بالتأكيد ليست ديمقراطية»، وإنما «مجتمع يهودي» تخص اليهود في جميع أنحاء العالم، حتى الذين لا يعتزمون العيش هناك. ويخلص ساند إلى أن معاداة السامية تعني معاداة اليهود في جميع أنحاء العالم على أساس ديني، أما معاداة الصهيونية فتعني معاداة توجه سياسي يقوم على نزعة عنصرية يمارسها الكيان القائم على أرض فلسطين بامتياز.
في الوقت نفسه، فإن الفرنسيين المعادين للسامية، الذين يحلمون بمجتمع فرنسي خالص، يرغبون في انتقال جميع اليهود الفرنسيين إلى إسرائيل وهو ما يضع المعادين للسامية في كفة واحدة مع المتحمسين للصهيونية، وليس العكس. وفي هذا الإطار يقول الصحافي الفرنسي، دومينيك فيدال في إطار حديثه عن مشروع قانون اقترحته مجموعة من المشرعين الفرنسيين في مجلس النواب الفرنسي، في يوم 18 فبراير الماضي، لتجريم معاداة الصهيونية باعتبارها شكلا من أشكال معاداة السامية، (Bill equating anti-Zionism with anti-Semitism sparks debate in France) إن النظر إلى معارضة نظرية تيودر هيرتزل باعتبارها شكلا من أشكال معاداة السامية «يعني أننا نقول إن ملايين اليهود الذين لا يرغبون في العيش في فلسطين والأراضي المحتلة معادون للسامية.. إن هذه أمية تاريخية، أو – وهو الأسوأ – نوع من الغباء».
ويرى ديفيدسون أن ماكرون ليس غبيا، لكنه أيضا ليس من المؤمنين حقيقة بمبادئ الديمقراطية والجمهورية، ويضيف «إنه يعلم – كما يقول الناطق باسم حزبه – أن تجريم إنكار وجود دولة إسرائيل كوطن لليهود يعني تجريم الوقوف إلى جانب القلسطينيين وضد الطبيعة العنصرية الكامنة في دولة دينية إثنية بامتياز». وبهذه الطريقة وبهذا المنطق المغلوط يصبح عداء العرب الفرنسيين لليهود الفرنسيين الصهيونيين جريمة يحاسب عليها القانون. تلك هي الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة بعد خسارة معركة الجدل الشعبي بشأن الطبيعة الحقيقية للمشروع الصهيوني في فلسطين، وهي تحويل ميدان المعركة من ساحة العقل الجمعي الفرنسي إلى ميدان المؤسسات التشريعية ومنصات القضاء.
لا يعتقد ديفيدسون أن هذه الاستراتيجية المناهضة للديمقراطية ستحظى بتأييد أي زعيم وطني فرنسي، لكنه يخشى الانتهازيين السياسيين الذين «يُمنون النفس بالحصول على تأييد لوبي يتمتع بقوة سياسية». أما بالنسبة لماكرون فإنه يلعب على وتر وسم مناوئيه (ربما من المسلمين الفرنسيين وأصحاب السترات الصفراء) بمعاداة السامية.
يخلص ديفيدسون إلى أن التعاطي مع قضية معاداة السامية / معاداة الصهيونية بهذا المنطق الذي يقوم على خلط الأوراق لا يقدم إجابات ناجعة على مشكلات فرنسا الجوهرية، وإنما – على النقيض من ذلك – يمثل خطرا داهما على الثقافة الفرنسية على المدى البعيد. فمعاداة السامية – كما يؤكد التاريخ ويوضح ديفيدسون- ليست توجها جديدا على فرنسا، وإنما تضرب بجذورها في عمق التصور الفرنسي عن الذات الذي لا يقبل بغير الفرنسيين الحقيقيين، سواء كانوا مسلمين أو يهود. وما لم يكن القادة الفرنسيون مستعدين لمواجهة هذا التطرف الثقافي، فإن معاداة السامية وسائر أشكال المشاعر الإكسينوفوبية (كراهية الأجانب) ستتحول إلى سم زعاف يسري في الجسد الفرنسي لأجل غير مسمى.
*يمكن تحميل المقالة بصيغة «بي دي إف» من هنا ?