كثيرة هى الدراسات التي تناولت سيرة الأئمة وعلماء الدين المسلمين على إختلافهم، ومنجزهم في مجال الفقه والحديث وأصول الدين. وما من دراسة إلا وأشادت بكونهم أهل حجة في اللغة العربية، ذلك أن فهم معاني القرآن وأحكامه لا يتأتي إلا لذي علم بأصول اللغة العربية وفنونها. حتى أن السيرة الذاتية لبعض هؤلاء الأئمة جاءت موسومة بالهجرة من مكان إلى مكان فقط لإكتساب مزيد من مهارات وفنون تلك اللغة.
في هذا السياق كان اهتمام العديد من الأئمة بدراسة شعر السابقين وحفظه وترديده. لم يقتصر بعض الأئمة على دراسة شعر السابقين وحفظه، كوسيلة لإتقان فنون اللغة العربية، بل إنهم هم ذاتهم قد شُغفوا بالشعر إلى حد نظمه وترديده في المناسبات المختلفة، الأمر الذي دعانا في موقع «أصوات أونلاين» إلى تسليط الضوء على علاقة بعض هولاء الأئمة بالشعر من خلال عدد من الحلقات، نتعرف خلالها على أشهر هؤلاء الأئمة الذين شغفوا حبا بعالم الشعر والشعراء، ولنؤكد من خلال ذلك على أن الإسلام دين بهجة وجمال ومحبة وسلام، لا دين قتل وسفك للدماء وتجهم وغلظة كما يحاول بعض المنتسبين اليه زورا تقديمه للناس. فتبّحر هولاء الأئمة الكبار في علوم الدين والعقيدة والفقه لم يحل دون تذوقهم الشعر ونظمه، بل كان دافعا لهم على ذلك، ليتركوا خلفهم زادا للدين والدنيا.. فقد باتت تلك الأشعار التي تركها هولاء الأئمة، مصدر إلهام للعديد من المتصوفين، وزادا ومعينا لهؤلاء المتصوفة في حلهم وترحالهم، في حلقات الذكر وموالد آل البيت، ومختلف المناسبات الدينية.
الإمام الشافعي شاعرا
نبدأ تلك السلسلة من الحلقات بتناول سيرة الإمام الشافعي، ونتبعه بالإمام ابن الفارض، ثم محيي الدين ابن عربي، والإمام البوصيري.
«ولرب نازلة يضيق بها الفتى .. ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها .. فرجت وكنت أظنها لا تفرج»
شاع البيت الثاني من هذين البيتين بين الناس، حتى ما عاد أحد يعرف أن ناظمه هو الإمام الشافعي.
كثيرة هى الدراسات التي تناولت سيرة الإمام الشافعي ومنجزه في مجال الفقه والحديث وأصول الدين، وما من دراسة إلا وأشادت بكونه حجة في اللغة والأدب والشعر.
الدكتور نبيل حنفي محمود، في دراسته القيمة تحت عنوان «أئمة وشعراء غنائيون»، يولى إهتماما خاصا بالإمام الشافعي كشاعر تغنى بأشعاره العديد من المنشدين على مر التاريخ الإسلامي، وصولا للعهد الحديث، حيث لحن وغنى له الشيخ أحمد زكريا، قصيدة «إذا رمت» والتي وردت بديوان الإمام الشافعي تحت مسمى «عاشر بالمعروف».
«إذا رمت أن تحيا سليما من الردى .. ودينك موفور وعرضك صين
فلا ينطقن منك اللسان بسوأة .. فكلك سوءات وللناس ألسن»
فلسطين … أرض الميلاد
ولد أبو عبد الله محمد بن إدريس بن عباس الشهير بلقب الإمام الشافعي في غزة بأرض فلسطين سنة 150 هجريا، وكان والده إدريس بن عباس قرشيا فقيرا هاجر إلى غزة حيث توفاه الله عقب مولد الشافعي بنحو عامين، فعادت به أمه فاطمة بنت عبد الله الأزدية نسبة إلى قبيلة الأزد إلى مكة، ليحفظ القرآن الكريم ويدرس السنة بجوار الكعبة. وتؤكد العديد من الروايات أنه أتم حفظ القرآن وهو في السابعة من عمره.
حين أراد الشافعي التوسع في دراسة الفقه رحل إلى المدينة المنورة، وتتلمذ على يد الإمام مالك بن أنس، الذي ظل مرافقا له حتى مماته عام 179 هجريا، من ثم رحل إلى اليمن ليدرس علم الفراسة، وارتحل إلى العراق للإحاطة بفقه الامام أبي حنيفة النعمان.
رحلة الشافعي من بغداد إلى مصر
وتتناول دكتورة سعاد ماهر محمد في دراستها المعنونة «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون»، سيرة الإمام الشافعي، مشيرة إلى أنه حين قدم بغداد كان قد بلغ الرابعة والثلاثين من عمره، فتفرغ لدراسة العلم والفقه، على يد محمد بن الحسين الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، واستوعب بذلك فقه العراق، فجمع بذلك بين فقه الحجاز الذي غلب عليه النقل، وفقه العراق الذي غلب عليه العقل، هكذا أفاد الشافعي من أئمة الفقه في المنقول والمعقول. وفي سنة 198 هجرية تولى الخلافة أبو عبد الله المأمون وفي عهده لم يطب للشافعي المقام ببغداد وتمنى الترحال إلى مصر فأنشد يقول:
«لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر .. ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى القبر؟»
تضيف دكتورة سعاد، أقام الشافعي بمصر حوالي أربع سنوات، عمل خلالها على تصنيف كتبه، وإلقاء دروس العلم على تلاميذه، التي يصفها الربيع بن سليمان بقوله: «يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس، قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس، قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب إنتصاف النهار».
مهارات اللغة العربية
صرف الشافعي قرابة عقدين من الزمان في تعلم فنون اللغة العربية، حتى أنه ارتحل من مكة إلى قبيلة «هزيل» بالبادية، وهى قبيلة يصفها الشافعي بذاته قائلا: «إني خرجت من مكة فلازمت هزيلا بالبادية، أتعلم كلامها وأخذ طبعها، وكانت أفصح العرب»، وهنا يؤكد دكتور نبيل حنفي في دراسته على أن الشافعي قد عمل على نظم الشعر طوال حياته، حتى أن هناك من أبيات الشعر التي تروى عنه يقال أنه قد نظمها وهو على فراش الموت، وعن علاقته بالشعر يقول الشافعي:
«ولولا الشعر بالعلماء يزوي .. لكنت اليوم أشعر من لبيد».
كان الشافعي يعشق السفر والترحال، خاطب والدته في ترحاله قائلا:
«سأضرب في طول البلاد وعرضها .. أنال مرادي أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها .. وإن سلمت كان الرجوع قريبا»
كان الشافعي يرى في السفر العديد من الفؤائد ضمنها في أشعاره:
«سافر تجد عوضا عمن تفارقه .. وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إنى رأيت وقوف الماء يفسده .. إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والأُسْد لولا فراق الغاب ما افترست .. والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه .. والعود في أرضه نوع من الحطب
لما تغرب هذا عز مطلبه .. وإن تغرب ذاك عز كالذهب»
جاء شعر الشافعي حول مجاهدة النفس والدعاء وحب آل البيت والصحابة، فابتعد بذلك عن كثير من أغراض الشعر، كالغزل والفخر والهجاء والحماسة والوصف، وتميز شعره وفقا للعديد من دارسي أشعاره بالجزالة والإيجاز وقوة التأثير والسلاسة، وضرب بأشعاره المثل في البساطة وقدرتها على مخاطبة البسطاء قبل الصفوة، ومنها ما جاء تحت عنوان «منازل» في قافية الهاء من ديوان الشافعي:
«ومنزلة السفيه من الفقيه .. كمنزلة الفقيه من السفيه
فهذا زاهد في قرب هذا .. وهذا فيه أزهد منه فيه»
تلحين الشعر وغنائه في عصر الشافعي
جمّلت أجيال متعددة من المنشدين والمغنين أصواتها بقصائد للإمام الشافعي. وعن تلحين الشعر في عصره، يشير الإمام القشيري في «الرسالة القشيرية» بقوله: «قد سمع السلف والأكابر الأبيات بالألحان، فممن قال بإباحته من السلف: مالك بن أنس، وأهل الحجاز كلهم، يبيحون الغناء»، لذا ترنم المنشدون بقصائد الشافعي، منذ عصره وحتى الآن في المجالس الصوفية والموالد وحلقات الذكر، ومن أبرز تلك القصائد التي اشتهرت بتلك المحافل تأتي قصيدة «الرضا بالقضاء» التي جاء فيها:
«دع الأيام تفعل ما تشاء .. وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي .. فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا .. وشيمتك السماحة والوفاء
وإن كثرت عيوبك في البرايا .. وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب .. يغطيه كما قيل السخاء»
توفي الإمام الشافعي بمصر بآخر ليلة من شهر رجب سنة مائتين وأربع للهجرة، وعمره أربعة وخمسون عاما، ودفن بأرض مصر، وبنى على قبره قبة، جددها صلاح الدين الأيوبي، وبنى بجوارها المدرسة الصلاحية عام 575 هجريا، لتكون معقلا لنشر المذهب الشافعي. فوق تلك القبة يوجد مركب صغير مثبت في هلال القبة منذ إنشائها وحين رآها الإمام البوصيري صاحب البردة أنشد فيها:
«بقبة قبر الشافعي سفينة .. رست في بناء محكم فوق جلمود
وقد غاض طوفان العلوم بقبره .. استوى الفلك من ذاك الضريح على الجودي»