حتى وقت قريب كان المستقر في مصر أن الناس يقيمون حفلات للخطوبة وللزفاف، وهو الأمر الطبيعي. فبداية حياة اثنين قررا أن يفتحا بيتا يتقاسمان فيه الأفراح والأتراح، هي بداية تستحق الاحتفال.. لكن الغريب والعجيب الذى طرأ مؤخرا على مصرنا المحروسة، أنه قد صارت تقام حفلات للإنفصال أو الطلاق أيضا، و لا ندري من أين بدأت الحكاية ولا متى، لكنها وصلت بلادنا.
اللافت هنا أنه ومنذ بداية تلك الظاهرة وإلى اللحظة الراهنة، تحتفل النساء بهذه المصيبة ولا يحتفل الرجال. لكن الأكيد أنهم سيحتفلون أيضا؛ لأن ابتكارات النَّزَقِ الإنساني بمثابة عرض مُغْرٍ يقود الآخرين للمحاكاة.
حفل طلاق في اليابان
اقرأ أيضا:
آخر الزمان
هذه الظاهرة الاجتماعية المستغربة، أثارت بالطبع الكثيرين من علماء النفس والاجتماع والإعلاميين، فتم عرضها على الشاشات وطرحها في الصحف والمجلات والتعريف بها والتنويه عنها. ولم تخل مناقشات ومواجهات الضيوف متبايني الآراء في برامج «التوك شو» بالفضائيات، من الألفاظ الحادَّة، بل وكاد الأمر أن يصل لحد التشابك بالأيدي وقلب منضدة الحوار على رؤوس الجميع، خصوصا رأس المذيع أو مقدم البرنامج الذي يبدو دائما كمن يريد تحقيق سبقٍ إعلاميٍّ بالخبر المثير ،مهما يكن الثمن، متجاهلا «الحالة المتدنية للمناقشة».
أما جموع الناس فتناولوا الموضوع الغريب في تجمعاتهم وحواراتهم اليومية بالذهول البالغ والسخرية اللاذعة، وقالوا مقولاتهم التقليدية أمام المستجَدَّات التي تسبِّب الفتن: نحن في آخر الزمان.. اقتربنا كثيرا من القيامة…. ذهب أهل الخيرات بالخيرات وبقي أهل الشرور بشرورهم..
لا يعوَّل على كلام الناس بأمثال هذه القضايا الحسَّاسة، لا سيما المحدودين، لكنه يؤخذ في الاعتبار طبعا؛ فهم الذين يشكِّلون صوت المجتمع وصورته الكلية في النهاية.
حفل طلاق في موريتانيا
رقص وغناء
تقول النساء المحتفِلات بالطلاق – سواء كان مباشرا تم عن طريق الرجل أو حدث عن طريق المرأة لو كان بيدها العصمة أو كان خلعا-: لا نرى الاحتفال بالانفصال مَعِيبا؛ لأننا ذقنا الأَمَرَّين، وصارت العشرة بيننا وبين الأزواج سجنا كبيرا، وومض الطلاق وحده كمفتاح للباب المغلق.
يقلن أيضا: لا نبالغ في الاحتفال على كل حال، لكننا نجتمع بالمقرَّبين حول الشاي وقطع الجاتوه والمشروبات المثلَّجة، ونحكي تجربة العذاب ببيت الزوجية المنهدم، وربما غنَّيْنَا ورقصنا وتبادلنا النِّكات وعلت ضحكاتنا إلى الأسقف..
من باب العناد أتصور أن الرجال سيفعلون فوق ما تفعله النساء في إثر الطلاق، والمعاناة ليست امرأة ولا رجلا في الحقيقة، لكنها إنسان دهسته الظروف الصعبة، وقتل فيه المودَّة قبحُ شريكٍ كان يوما نافذته على الواقع الجميل.
لم تكن التجربة موجودة ببلادنا كما أسلفت، لكنها انتقلت إلينا غالبا من مكان لا يشبهنا في وقت لم نكن فيه أيقاظا، كما انتقل إلينا غيرها من قبل بالضبط واستنكرناه في بدايته حتى صار من جملة طبائعنا ثم اندثر، وهكذا الموضات تمكث ثم تزول..
يرى الرافضون لمعنى هذا الاحتفال ومبناه أنه خروجٌ عن عاداتنا وتقاليدنا، وربما مخالفة صريحة للدِّين أيضا حيث إن الطلاق «أبغض الحلال إلى الله»؛ فكيف يصح احتفال الناس به؟
وترى الجبهة الراضية أن المشاعر الإنسانية الخاصة لا يجب أن تكون محلَّ تدخل من أحد، ببساطة لأن الإنسان لا يعرف ما في قلب أخيه الإنسان ولو كانا شقيقين أوصديقين قريبين، وحتى لو استطاع واحد أن يضع نفسه مكان الثاني فلن يبلغ عواطفه ولا أحاسيسه، ولا شىء مما يشعر به.
حفل طلاق في السعودية
مفهوم خاطىء
في الحقيقة مفهوم الزواج عندنا مشوش في العموم؛ فليس بمشروعٍ نبيلٍ راقٍ لحياة متكاملة بل كثيراً ما يتم لأسباب مادية بحتة كالرغبات الجسدية والأحلام بضمان الثراء للأبد، وقد عززت هذا الضياع، الطبقات الغنية الطفيلية التي جدت وانتشرت في مجتمعنا كله ومنحت نفسها ألقابا براقة وخلعت على أعمالها المشبوهة صفات حميدة جذابة؛ فهي لا تفكر سوى في الرفاهية وحصد المتع وابتكار طرق للتسلية وقتل الفراغ.
سهل بالبداهة، والزواج لدينا هذا حاله وسط اختراق العابثين اللاهين لقيمنا المجتمعية، أن يتعاظم الإحساس بأفضلية الطلاق وكونه الحل الوحيد للمشكلات خصوصا لو كان طلاقا بلا تبعات مزعجة..
ماذا أعني؟ أعني ببساطة أننا يجب أن نعرِّف الأبناء مسؤولية الزواج أولا ومعنى مفهوم الأسرة، ونلقنهم كثيرا من الاحترام الذي ينبغي أن يشمل العلاقات الإنسانية التي اختارت الارتباط الرسمي، ونحرص على أن نجعله ارتباطا حرا من الأساس وليس للمصالح، ومن الضروري أن نُعلي أمامهم قيما كالصدق والإخلاص والوفاء، وأن نحثهم على احترام القيم والمبادىء والأصول والأعراف، وأن يفهموا ويدركوا أن الزواج ليس للهو الشهواني الفارغ، بل هو مسئولية كبيرة، ويجب أن نبث في شبابنا أيضا أن الزواج وتكوين أسرة يستوجب الاعتماد على النفس في العمل والكسب.. وقبل ذلك وبعده أن نطهر وننظف مجتمعنا من الأفكار الشاذة والمتطرفة بثقافة التنوير الشاملة وإعلام التوعية الصادق وبالتعليم الراقي الألمعي الذي يتجاوز الماضي الركيك البائس، وإن مناهج الدراسة عليها أن تضع مادة اجتماعية محكمة تخص الأسرة، بين موادها الأساسية لا الهامشية وفي مرحلة دراسية مبكرة، وتتوسع في تدريس أقسامها للتلاميذ بحذق وأناة، مع تأكيد الأهمية القصوى لدور الكيان الأسري نفسه في الموضوع فهو القدوة المباشرة للصغار، ويمكن التنسيق بين المدارس والبيوت من خلال الاجتماعات الدورية لمجالس الآباء.. وما لم تبادر وزارة التعليم باعتماد الأمر شديد الضرورة بعد التهيئة له؛ فإن العبث الاجتماعي سيزداد والشتات سيكون العنوان الأبرز لسنواتنا المستقبلية، بينما نريد لمستقبلنا أن يكون الحصن المنيع والحضن الجامع.. إن القضية لها جلالها كقضايا السياسة والاقتصاد بالضبط، وتحتاج إلى مشاركة وإسهام المراكز البحثية الخاصة بالدراسات الإجتماعية، وإلى قراءة وتفسير عميقين من أساتذة الاجتماع وعلم النفس، وإلى دور للدولة ومؤسساتها المختلفة فى الإعلام والتعليم وكذلك تحتاج إلى دور أكثر فعالية للأزهر وللمؤسسة الدينية على وجه العموم.